الجذور التاريخيـّة للطائفيّة السياسيَّة في العراق

د. طه جابر العلواني*

 

 أبتلى العراق تاريخياً بأن كان ميداناً من أهم ميادين الصراع والحروب بين السلاجقة الأتراك في العصور العباسية الأخيرة والبويهيين الفرس. وما أن تجاوز تلك المرحلة حتى وقع أسيراً للغزو المغولي. وقبل أن يشفى من آثار ذلك الغزو المبير إذا بالحروب والصراعات بين الدولتين العثمانية في تركيا، وما أخضع لها، والصفوية في إيران تتخذ من العراق ميداناً من أهم ميادين القتال والصراع بينهما، فأورثه ذلك التاريخ الطويل من الصراع فيه وعلى أرضه تراثاً في غاية التعقيد. فالسلاجقة الأتراك حين سيطروا على العراق وتحكموا في مقاليد بغداد اضطهدوا سائر الفرق والمذاهب الإسلامية التي لا تتبنى توجههم "الماتريدي" [1] في العقائد والحنفي الخاص في الفقه. وقد أصاب الأشاعرة [2]والمذاهب السنية الفقهية المغايرة لهم عنت كبير، وعرفت بغداد في عهدهم عقوبة إعدام كتب المخالفين لمذهب الدولة حرقاً. قبل أن يمارس المغول ذلك في إغراق كتب العلم في نهر دجلة بعد قرنين من الزمان.

 

إنّ ما سُمي "بالحكم الوطني" الذي تأسس في ظل الاحتلال البريطاني ولمساعدة بريطانيا على حفظ الأمن في العراق، وتوفير أرواح جنودها، قد سلك ذلك الحكم منذ البداية مسلكاً استبدادياً؛ لاعتماده في تدعيم سلطانه على رضى الغازي ومساندته، لا على قناعة الشعب العراقي به وخاصة المراجع وأتباعهم. كما اتبع سياسة التمييز الطائفي بتشجيع من المحتل الغازي كذلك. ومن أبرز ما لجأ إليه لتكريس التمييز الطائفي، وتحويله إلى حقيقة ثابتة ومبررَّة في الوقت نفسه نزع الهوية العربية عن الشيعة والتشيُّع. والاستمرار في سياسات العزل المذهبي الموروثة عن العثمانيين، والتشهير بالمذهب الشيعي ونسبته إلى الفرس، ورميه بأنّه مذهب يقوم على البدع، وأنه قد تغلغل فيه الفكر الشعوبي والفارسي، وصار السمة الغالبة عليه. ولقد أدت تلك السياسات إلى توليد قناعات خاطئة، قامت على أسس منحرفة منها أحزاب وقوى وطنية إقليمية، أو قومية شادت برامجها السياسية على قواعد مائلة خاطئة من تلك التصورات. مع أن المفترض في تلك الفئات الإقليمية منها والقومية أنها ليبرالية في بنائها الفكري. وبعضها يصرح بعلمانيّته، فمن أين وكيف يجمع هؤلاء بين الطائفية المذهبية وبين الليبرالية والعلمانية؟ لكن لله في خلقه شؤون !![3].

 

استقلال الحوزات والمدارس الدينية الشيعيّة: مما عرف به السلاجقة الأتراك الذين هيمنوا على العراق الجمع بين ضيق الأفق والتعصب ضد المخالف إلى درجة استباحة قتله. فهم لا يؤمنون إلا بالرأي الواحد والمذهب الواحد، وحين وجدوا تلك الحريات الفكرية والمذهبية في بغداد ساءهم ذلك، وعملوا على مصادرة تلك الحريات، ووضعوا من القيود ما لا عهد لبغداد والعراق به. وطاردوا علماء المخالفين، وقتلوا منهم عدداً، وأحرقوا كتب المخالفين لهم باحتفالات علنية من فلاسفة ومناطقة وعلماء. وإمعاناً في القضاء على ظاهرة "الحرية  الأكاديمية" أو حرية التعلم والتعليم عمدوا إلى تأسيس مدراس لا تُدرس إلاّ مذهب الدولة، وما تقبله من فكر، وأوقفوا عليها الأوقاف والحبوس، وربطوا بها الوظائف. وبذلك صادروا حرية القلم لصالح سلطة  السيف، وحولوا علماء الحنفية خاصة إلى موظفين وامتهنوا العتبات والأضرحة التي لها لدى الشيعة قدسيّة، ولدى بقية المسلمين احترام وتقدير [4].

 

هنا عمد علماء الشيعة إلى البعد عن أماكن السيطرة السلجوقية المطلقة وموظفيها فبدأوا بتأسيس مدارسهم الخاصة  و "حوزاتهم العلميّة" في النجف وفي الأماكن النائية عن العاصمة وذلك في منتصف القرن الخامس الهجري. وكانت بدايات بسيطة لا يصعب تمويلها بما يتوافر لهؤلاء العلماء من حقوق، وتبرعات الموسرين من مقلديهم.

 

أما في الجانب الحنفي خاصة، والسنّي بصفة عامة فقد حاول السلاجقة تحويل المدارس والوظائف الدينية إلى مؤسسات معقدة ضخمة بحيث تحتاج إلى أموال الدولة وأوقاف قادتها، وتمويل رجالها على الدوام. وقد بدأ بعضهم يختص ببعض العلماء وتلامذتهم، ويبني لهم المدارس الفخمة والمساجد الضخمة والتكايا، ويوقف عليها الأوقاف لتستقطب الطلاب، ويتنافس على التدريس فيها المدرسون، ويقبل الطلاب على الدراسة فيها. ومنذ ذلك التاريخ والعالم والفقيه الشيعي يتمتع بالاستقلال المادي عن الدولة بحيث يستطيع أن يتمتع بشعور الاستغناء عن الحاكم، بل والاستعلاء عليه. ويحقق معنى الكلمة الشائعة في الأوساط الفقهية: "وعلا الملوك ليحكم العلماء".

 

أما في المجال السنِّي فمهما علا قدر العالم فإنه لا يعدو أن يكون واحداً من موظفي الدولة، عليها يعتمد في رزقه، وممارسة دوره، والمحافظة على مكانته،  ولذلك ساغ لبعض الناس أن يرددوا واصفين بعض أولئك العلماء بأنهم "وعاظ السلاطين والأمراء والوزراء"[5] في حين يكون أقصى ما يمكن أن يوصم به عالم شيعيّ بأنَّه من "فقهاء الحيض والنفاس" تعبيراً عن انشغاله عن القضايا الكبرى وهموم الأمة بالجانب الفقهي ذي الصبغة الفردية [6]، وهو جانب لابد من وجود من يقوم به في سائر الأحوال، لأنّ الأفراد يحتاجونه في سائر حياتهم اليومية وفي كل الأحوال.

 

ويمكن للكاتب في تاريخ "العلوم النقلية" أن يرصد مجموعة كبيرة من الفوارق بين حالات هذه العلوم في الحوزات وحالاتها في المدارس السنيّة في العراق خاصة. رغم أن عصور الانحطاط قد أحدثت كثيراً من الآثار السلبية في هذا النوع من الدراسات بصفة عامة، لكن الآثار السلبية في هذه المعارف في الجانب السنيِّ كانت أشد وأنكى؛ فقد أورثت جموداً وتقليداً بدأ قبل سقوط بغداد بأيدي التتار، وما زال قائماً. ووجود أفراد نوابغ من الفريقين بلغوا مرتبة الاجتهاد وحافظوا على القدرة على التجديد والإبداع لا يؤثر في القاعدة العامة كثيراً، فهو بمثابة شذوذ فردي لا يخرم القاعدة. لذلك فإنّ قدرة الفقيه الشيعي على استقطاب الجماهير والاقتراب منها والإحساس بها وقيادتها لا تزال تعتبر خاصة من خواص الفقهاء الشيعة [7].

 

مناقشة دعوى عجمية التشيع: لمزيد من التوكيد على الثوابت الآنفة الذكر أبادر إلى القول بأن هؤلاء الذين توهموا "عجمية التشيع" ووصفوا الشيعة بأنهم "عجم أو أعاجم" هم أميون لا يعرفون تاريخاً ولا جغرافية ولا إلمام لهم بنشأة وتاريخ الفكر الإسلامي ومدارسه، ولا المذاهب الإسلامية وطرق ووسائل انتشارها جغرافياً واجتماعياً أو أنهم أصحاب غرض، وفيما يتعلق بالعراق خاصة هم متساهلون في معرفة ماضيه وحاضره ومستقبله. ولذلك فهم في حاجة إلى أن يدرسوا ويقرءوا ويطلعوا ليفهموا حقيقة الأمور.

 

ولذلك وددت أن أضع بين أيدي الباحثين نبذة وجيزة ومنصفة بقدر الإمكان عن:

ماضي العراق

وحاضره

ومستقبله

لعلها تعين في تعميق البحوث والدراسات التي نرجو أن يكون لها دور في إعادة بناء وتجديد فكر العراقيين بحيث يكونون أقدر على إعادة بناء وترميم علاقاتهم، والتعاون معاً لإعادة بناء العراق الجديد سليماً معافى من الأمراض الظاهرة والكامنة التي يمكن أن تهدد أجياله القادمة.

 

ولكثرة ما حوربت هذه الحقيقة فإننا نرى أنها في حاجة دائمة لمزيد من التوكيد على عربية التشيع في العراق، وأن بدايات انتشاره كانت بأيدي العرب والقبائل العربية. ومن الدلائل المؤكدة لهذه الحقيقة أن أبناء الصحابة وآل البيت نصحوا الحسين – رضي الله عنه وأرضاه -  وأشاروا عليه بالتوجه نحو مراكز تجمعات تلك القبائل العربية، ومنهم ابن عمه عبد الله بن جعفر – رضي الله عنه – حيث قال له: "يا ابن العم إني أخاف عليك أهل العراق... أقم في الحجاز فإنك سيده. وإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فإنّ بها شيعة أبيك وبها حصون وشعاب.."[8].

إنّ التشيع وكما ألمحنا وأكدنا فيما مر شأنه شأن أي توجه أو موقف نظري يبدأ بسيطاً، ثم يتطور عبر تفاعل الناس معه. وينتشر في بيئآت دون أخرى وفقاً لعوامل كثيرة. وقد استقطب التشيع في كثير من مراحل تاريخ المسلمين معارضي الحكومات الأموية، ثم العباسية، ثم العثمانية، ثم الاحتلال الأجنبي في العصور المتأخرة والحكومات التي أقامها المحتلون حتى شاع تصور بأن "التسنن" يكاد يكون وعاء الحكم أو حزب الحكومات. و"التشيُّع" محضن المعارضة من الناحية السياسية، ولكن من الخطأ توهم أن السياسة وحدها هي العامل الأساسي في تكوين أي من الفريقين، وإن كانت السياسة واحداً من العوامل الكثيرة التي شاركت في تكوينهما، ولكن الاستغلال السياسي لذلك وتكريسه أمر لا شك فيه. والتشيع كان يمد الخيال الشعبي كلما تزايد ظلم الحاكمين وانحرافهم بأجمل صور البطولات والتضحيات لتحقيق قيم العدل والمساواة بين المسلمين، ونبذ الظلم والخروج على الظالمين، وتحقيق المقاصد الشرعية، والقيم الإسلامية، وذلك كفيل بترسيخ البعد السياسي والاجتماعي للتشيع.

 

والمتتبع للأدب الشيعي يجد مصداق ذلك في كثير من جوانبه. فالكميت الأسدي وهو من شعراء العصر الأموي الأول يقول موضحاً هذا البعد:

 

                فكيف ومن أنَّى وإذ نحن خلفة        فريقان شتى تسمنون ونهزل

ويقول أيضاً:

                فقل لبني أميّة حيث حلوا              وإن خفت المهنّد والقطيعا

        أجاع الله من أشبعتموه         وأشبع من بجوركمو أجيعا

ويبدو الاتجاه الثوري لدى الكميت في تمنيه أن يرى في بني أمية ما يتمنى لهم من بوار في الحياة الدنيا فيقول:

        تَحِلُّ دماء المسلمين لديهمو            ويحرم طلع النخلة المتهدّلُ

        فيا رب عجّل ما نؤّمل فيهمو         ليدفأ مقرور ويشــبع مرمل [9]

 

فهو لا ينتظر فيهم الجزاء الأخروي ليذهبوا إلى النار ويذهب المعدمون من معارضيهم إلى الجنة، بل هو يتمنى التخلص من سلطانهم في الدنيا ليدفأ المقرور، ويشبع الجائع المرمل.

 

ولقد ترك "التشيع" آثاراً هامة في سائر جوانب الحياة الإسلامية: في جانب الرؤية الكلية والنماذج المعرفية وجوانب المعرفة الإسلامية والفكر الإسلامي إضافة إلى الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية.

 

وأهم البيئآت الإسلامية التي ترك التشيُّع آثاره البارزة في جوانب حياتها هي البيئة العراقية. قد يعود ذلك إلى وجود العتبات فيه أو لاستشهاد الأئمة، علي وبنيه وكثير من ذرياتهم وشيعتهم فيه، وقد يعود ذلك إلى كونه أهم مراكز الدراسات الشيعية في العالم، ففيه حوزات مرجعية تعد مراكز إشعاع لا غنى لأي شيعي في العالم عن الرجوع إليها. وقد يرجع إلى وجود أكبر عدد من المراجع في النجف وكربلاء، وقد يعود إليها كلها مجتمعة، ولكن الحقيقة هي أنّ التشيّع عربي النشأة والتطور، فمن أين ساغ لبعض الحكام العراقيين أن يصفوا الشيعة كافة بأنهم أعاجم؟ وكيف ساغ لبعضهم أن يصفوا التشيُّع بأنه مذهب أعجمي؟!! وهو عربي في نشأته وتطوره ومبدأه ونهايته؟

 

الطائفية السياسية: كيف زُرعت في العراق وكيفية احتواء خطرها: مفهوم "الطائفية" مفهوم مشتق من جذر متحرك، فهو مأخوذ من "طاف يطوف طوافاً فهو طائف"،  فالبناء اللّفظي يحمل معنى تحرك الجزء من الكل دون أن ينفصل عنه، بل يتحرك في إطاره، وربما لصالحه. "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"(التوبة:122). وهو أيضاً مفهوم يشير إلى عدد قليل من البشر إذ لا يتجاوز - لغة ً- الألف من الأفراد. ومن ثم فإن هذا المفهوم في جوهره يتضمن فكرة الأقلية العددية الصغيرة المتحركة في إطار الكل المشدودة إليه بغض النظر عن دينها أو عرقها أو لغتها... فهو مفهوم كمي عددي لا غير، لذلك ظل اللفظ يستخدم ليشير إلى كيانات مختلفة متعددة في خصائصها، ولكن القاسم المشترك بينها هو القلة العددية، فقد أطلق على حملة المقالات أو الآراء (نسبة إلى ما كانت الأكثرية تتبناه) "طوائف" مثل طائفة المعتزلة وطائفة الأشاعرة؛ ثم لما حدثت مقالات انقسمت حولها هذه الطوائف في داخلها، سميت بطوائف، أيضاً مثل الإمامية والزيدية ونحوها بالنسبة للشيعة، ثم انقسمت هذه بدورها  إلى مجموعات سميت "طوائف" كذلك. ولم يبرز هذا المفهوم باعتباره إشكالية أو أزمة إلا في القرنين الأخيرين خاصة، وذلك تحت تأثير عوامل داخلية وخارجية في ظرف تاريخي معين ساعد على إحداث نوع من التطابق بين الأمراض الداخلية والمؤثرات الخارجية. فالعربي تعامل مع اليهودية والمسيحية والإسلام تعامله مع اختلافات اعتقادية لا تعني المفاصلة والعداء أو تهديد وحدة الكيان، والخروج عنه، أو محاولة الانتماء لكيان آخر خارجه. أو السعي للانفصال عنه فقط بحجة الاختلاف في العقيدة، ومن أقدم النصوص العربية الإسلامية في هذا المجال "وثيقة المدينة"[10] التي لا تزال بحاجة إلى دراسات متعمقة من جميع الجوانب، وفي ضوء تخصصات مختلفة.

وقد كانت الطائفية أبرز الانقسامات التي شهدها التطور التاريخي العربي إلى ما قبل الحملة الفرنسية على مصر والشام. وكما بين لنا التاريخ أنه لم تكن تلك الانقسامات عناصر تهديد لوحدة الكيان العربي أو مبرراً للتمايز والانفصال والتمزق بين أبنائه، أو وسيلة للاختراق من قبل الآخر، فالمسيحيون العرب لم يعلنوا – على سبيل المثال – مناصرة الصليبيين في حملاتهم على البلاد العربية، ولم يتحالفوا معهم حتى في لحظات انكسار المسلمين. ثم مزج مفهوم "الطائفية" ذات المكون العددي مع مفاهيم أخرى ذات مضمون فكري أو فلسفي أو عرقي أو مذهبي أو ديني فتحول إلى ما يشبه "المصدر الصناعي" في لغتنا ليفيد معنى الفاعلية الخاصة بالأقلية العددية، والمنفصلة عن فاعلية الأمة، وبذلك أصبح مفهوم "الطائفة" يستخدم بديلاً لمفاهيم "الملة والعرق والدين" التي كانت سائدة قبل ذلك. واختلطت هذه المفاهيم جميعاً في بيئة متأزمة فكرياً وسياسياً، مأزومة ثقافياً فأنتجت مفهوم "الطائفية" باعتباره تعبيراً عن حالة أزمة تعيشها مجتمعات عربية مثل لبنان حيث تحول الجزء إلى كل والبعض إلى كيان مستقل، وأصبحت الطائفية مذهباً وأيديولوجيّة وهُوِيَّة حلت محل الهويات الأخرى والانتماءات الأعلى، بل وبدأت تتعالى عليها، وقد تبدي الاستعداد للتقاطع معها، وأخذ موقعها وهذا ما يهدد وحدة العراق اليوم وينذر بإنهاء وجوده.

 

إن "الطائفية" السياسية قد تم تكريسها – كما تقدم - من ساسة ليس لديهم  التزام إسلامي، أو مذهبي، إذ أن "العلماني" سواء أخذ من الدين موقفاً محايداً أو معادياً لا يمكن أن يكون له موقف مذهبي حقيقي، إذ المذهب فرع عن التدين، ومن فقد الأصل فقد الفرع بالضرورة، بل هو موقف انتهازي للحصول على "عصبيَّة" كما يسميها ابن خلدون أو شعبية كما يطلق عليها في عصرنا هذا، ليكون الانتهازيّ السياسيّ  قادراً على الوصول إلى السلطة.

 

إن مجرد الانتماء إلى طائفة أو فرقة أو مذهب لا يجعل الإنسان المنتمي إلى تلك الطائفة طائفياً، كما لا يجعله طائفياً عملهُ لتحسين أوضاع طائفته أو المنطقة التي يعيشون فيها دون إضرار بحقوق الآخرين. ولكن الطائفيّ هو الذي يرفض الطوائف الأخرى، ويغمطها حقوقها، أو يُكسبَ طائفته تلك الحقوق التي لغيرها تعالياً عليها، أو تجاهلاً لها، وتعصُّباً ضدها.

 

ولقد أدرك المحتلون نقطة الضعف هذه في "السياسييّن العراقيّين" وأحسنوا استخدامها واللعب عليها. فالبريطانيّون حين رأوا أن ثورة العشرين التي فرضت عليهم الهزيمة والتخلي عن أحلامهم في العراق اندلعت في المناطق الشيعية أولاً، ومنها عمت العراق كلّه وقادها علماء الدين والمراجع الشيعية. قرروا الاعتماد في حكم العراق على "السنة العرب" فابتلعوا الطعم بقيادة وزعامة السيد عبد الرحمن النقيب، ومجموعة من رجال السلطة الذين جاء بعضهم من الجمعيات السرية التي كانت تتعاون مع بريطانيا  ضد الأتراك العثمانيين. وحين يبتلى بلد برجال سلطة يستندون في وجودهم، واستمداد نفوذهم إلى الأجنبي؛ فإنهم يمنحون ولاءهم واهتمامهم إلى أولئك الذين مكَّنوهم من السلطة، لا إلى شعوبهم. وهنا تبدأ زاوية اتصالهم بشعوبهم بالانفراج التدرجي إلى أن يحدث الفصام.

 

إنّ أخطر ما يبتلى به شعب أن يتحول حكامه من رجال دولة إلى رجال طوائف أو أحزاب أو قبائل، فالمصير الذي ينتظر ذلك الكيان هو التفكك لا محالة، ولن يكون بعد ذلك رابح  إلاّ  أعداء ذلك الكيان، المستفيدون من تمزيقه.

 

إنّ الناظر في الأوضاع العراقية الحالية يرى تشابهاً كبيراً بينها وبين ما جرى في مرحلة التأسيس، ويلحظ أنّ الاختلاف في الممثلين فقط لا في الأدوار التي تجري إعادتها بدقة عجيبة. والعراقيون ليس أمامهم خيار، فإما أنْ يتحلَّوا بالوعي السياسيّ الصادق، ويتخلَّصوا من الأفكار المريضة التي أعادتهم للاحتلال بعد ثلاثة وثمانين عاماً. وإما أن تستمر حالة الفعل ورد الفعل، وتبادل الأدوار بين الشيعة والسنة والعرب والأكراد والمحتلين القدامى والجدد.

 

لقد كنت أتابع مظاهرات طلاب المدارس الدينيّة السنّة بعد سقوط بغداد الأخير، ثم المسيرة الكبرى التي اشترك فيها أبناء الكاظميّة والأعظميَّة معاً وكلّهم كانوا يهتفون بصوت واحد مليء بنبرة الإخلاص "إخوان سنّة وشيعة، هذا البلد ما نبيعه". وكلما سمعت ذلك استغرقت في البكاء وقلت في نفسي: هكذا كان آباؤنا وأجدادنا يفعلون في العقد الثاني من القرن الماضي، تأتي مظاهرات الشيعة من الكاظميّة لتتّحد بمظاهرات السنَّة في جامع الحيدرخانة في بغداد إلى أن فرقهم الطائفيّون السياسيُّون، وأنسوهم وحدتهم، وبدَّدوا طاقاتهم في صراعات طائفيّة انتهت بالبلاد إلى الحالة المزرية التي تعيشها اليوم، وهي الحالة التي قد تحتاج البلاد إلى عقود قادمة عديدة لتتخلص من آثارها السلبيّة. وما هي بفاعلة إلاّ إذا تخلصنا من تلك البذور الخطيرة.

 

لذلك فإنّ اتفاق كلمة أبناء العراق على أن التنوع بكل أنواعه الدينيّة والعرقيّة واللسانية والمذهبيّة هو الثابت الثالث من ثوابت هذا البلد، فينبغي أن تتفق كلمة الجميع على تحويله إلى إمكانيَّة لا إلى معوّق، وأمر إيجابيّ لا سلبيّ، ووضع أسس وتقاليد يتَّفق الجميع عليها وعلى احترامها، وفي مقدمتها عدم قبول التفرقة والطائفيّة من أي وعاء خرجا، وعدم السماح لأحد بتحويلها إلى طائفيّة سياسيّة وأيديولوجيّة حكم. لا بد من تعليم الأجيال وتدريبها على أن المطلوب ليس مجرد قبول المخالف المذهبي أو الديني أو العرقي، بل لابد من اعتباره مصدر قوّة بحيث لو لم يكن موجوداً لوجب إيجاده. وهناك الكثير من الوسائل والأدوات المعاصرة التي يمكن أن تساعد على ذلك وتجعله حقيقة واقعة.

 

والاحتلال سواء كان قديماً أو حديثاً لا يمكن أن ينظر إليه على أنَّه فرصة لتحقيق مكاسب سياسية، طائفيّة أو عرقيّة، كما حدث في أعقاب ثورة العشرين ويراد تكراره اليوم أو إعادة إنتاجه بشكل آخر، بل هو فرصة لمراجعة النفس، ورصد الأخطاء والسلبيّات وأخذ الدروس والعبر لكيلا نستمر في تكرار أخطائنا، ويأكل الآباء الحصرم فتضرس أسنان الأبناء والأحفاد.

 

الثابت الرابع: ضرورة توفير كل أسباب التداخل بين أبناء الشعب

أما الثابت الرابع فهو نتيجة لازمة لما سبقه: فالتداخل بين فئآت هذا الشعب بالطرق العفوية ذات الصبغة الفردية لم يعد كافياً فلابد من العمل المنظم الجماعي لتحقيق التداخل بأنواعه المختلفة بحيث يتبناه الجميع، وتوضع له البرامج المدروسة ويشيع الوعي عليه بأنه يصبح ضرورة لابّد منها، وكذلك العمل على تيسير سبل معرفة بعضهم ببعض، وإقامة شبكات العلاقات بكل مستوياتها بينهم، فذلك سوف يوجد العراقيّ الذي فيه من كل ألوان الطيف، ومن كل العناصر المكوّنة للمجتمع نصيب، ولابد من توظيف وسائل وقنوات التربية والتعليم والإعلام والمواصلات لتوفير هذه الغاية وتحقيق التداخل المطلوب ونبذ العزلة بين الفصائل المكونة لهذا الشعب الذي طال ليله[11].

 

الثابت الخامس: الوحدة الوطنية:

أن ما يجرى – في الوقت الحاضر من اهتمام كل فيصل بالقضايا التي تخص من ينتمي إليهم طائفياً، أو قومياً أمر لا يبشر بأن العراقيين قد استوعبوا دروس التجارب المرة المتقدمة. والممارسات السياسية الحالية لم تستطع أن تنظر للعراق في كليته، ولا للعراقيين على انهم شعب واحد، والشيعي عندما ينطلق من منطلق معين، ومثله أخوه السني والتركماني والكردي، فإن ذلك يؤدي إلى تكريس الفرقة والتمزق. فيما لم يتعود المثقفون العراقيون والمنشغلون بالعمل العام على الخروج على تقاليد "الطائفية السياسية" والعنصرية السياسية فقد تتضاعف الخسائر التي ترتبت على سياسات العقود الماضية المرفوضة التي جلبت الكوارث على الجميع، وأدت إلى إعادة البلاد إلى الاحتلال من جديد. ولذلك فلابد من اجتماع الكلمة على "وحدة وطنية" صلبة. والإسراع بإعادة تحديد "الهوية العراقية" بدقة بحيث يغلق الطريق أمام دعاة الفرقة والتمزق وتكريسها بالطائفية والعنصرية والحزبية العشائرية، وما إليها من عوامل التمزق.

 

وهذه التوجهات لابد أن تتضافر الجهود على إيجادها في الأجيال العراقية الطالعة كل مؤسسات المجتمع، وسائر مؤسسات بناء الرأي وإنتاج الأفكار بما في ذلك دور العبادة، والبرامج الثقافية للأحزاب السياسية، وذلك لبناء حس وطني مشترك ينفر عقلياً ونفسياً من كل تصرف مفرق أو معل للأنتماءآت الصغرى الفرعية الخاصة على الانتماء المشترك.

 

 

الهوامش



 

[1] - الماتريدية: هم أصحاب أبي منصور محمد بن محمود المعروف بالماتريدي والملقب بإمام الهدي، ولد ونشأ في سمرقند موطن المناظرات والمجادلات في الفقه والأصول، وكان حنفي المذهب تلقى علوم الفقه والكلام على نصر بن يحيى البلخي، وضع كتباً كثيرة منها: كتاب تأويل القرآن، وكتاب الجدل، وكتاب الأصول من أصول الدين، وكتاب التوحيد والمقالات في علم الكلام. وحاول إثبات العقائد التي أشتمل عليها القرآن بالعقل والبراهين المنطقية، وقد اعتبرت الماتريدية أن معرفة الله تعالى مدركة الوجوب بالعقل، وأن الله تعالى منزه عن العبث وأن أفعال الله تعالى أرداها لحكمة أختارها، وأن الله تعالى خالق الأشياء كلها فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق لله وحده لا شريك له.

 

[2] - الأشاعرة: هم أصحاب أبي الحسن على بن إسماعيل الأشعري (ت 330 هـ) ينسب أبو الحسن إلى أبي موسى الأشعري، وكان على مذهب المعتزلة في علم الكلام وتتلمذ على شيخهم أبي علي الجبائي، وأقام على الاعتزال حتى سن الأربعين حيث جرت بينه وبين أستاذه الجبائي مناظرة اعتكف على أثرها في بيته مدة خمسة عشر يوماً ثم خرج إلى الناس ودعاهم إلى الاجتماع في المسجد الجامع في البصرة ثم صعد المنبر وقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا اعرفه بنفسي أنا كنت أقول بخلق القرآن وأن الله تعالى لا يرى بالأبصار، وأنا تائب مقلع متصد للرد على المعتزلة فأخرج فضائحهم. ومن آرائه أيضاً إن علم الله تعالى واحد يتعلق بجميع المعلومات المستحيل، والجائز، والواجب والعدم، وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصلح من الجائزات وإرادته واحدة تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص، وكلامه واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد. كما أثبت أن السمع والبصر لله تعالى صفتان أزليتان وأثبت أن اليدين والوجه صفات خبرية. والإيمان عند الأشعرية هو التصديق بالجنان فمن صدق بالقلب واعترف باللسان صح إيمانه، وقد أنتشر المذهب الأشعري في العراق ثم في مصر أيام صلاح الدين الأيوبي وكذلك في سوريا وبلاد المغرب العربي.

 

[3] - أن ما نقوله قد لا يعجب الكثيرين من أولئك المعجبين بالنظام الملكي الذي قام في أعقاب ثورة العشرين لأن من جاؤا بعده ارتكبوا من الأخطاء بل والجرائم ما جعلهم ينظرون إليه على أنه كان الصورة المثالية، لكن الناظر إلى ذلك النظام بشكل موضوعي، لا بد له أن يدرك أن ما جاء بعده من نظم العسكر والبعثيين والطائفيين لم يكن إلا ثماراًُ مرة لغرسه، فلو طاب الغرس لطابت الثمار، ومجيء من هو أظلم لا ينبغي أن ينسي الناس دور الظالم في مجيء من هو أظلم، ودور المنحرف في مجيء من هو أكثر انحرافاً فذلك أمر يكاد يكون طبيعياً. فأيلولة النظام العراقي إلى دكتاتورية صدام لا ينبغي أن تغطي على البذور والجذور الفاسدة التي أفرزت نظامه البشع.

 

[4] - مثال على ذلك الامتهان أن مقبرة النجف قد أعطيت "باللزمة" إلى ملتزم يهودي كان المسؤول عن السماح بدفن أموات المسلمين الشيعة في المقبرة من عدم ذلك، وكان يتقاضى على ذلك أموالاً ترهق كواهل أهل المتوفى، إضافة إلى إجراءات أخرى تعد بحد ذاتها أهانة بالغة حفلت بها تلك الصفحات المطوية من تاريخ العراق.

 

[5] - لعلي الوردي كتاب حمل هذا العنوان (وعاظ السلاطين) نشر في بغداد في خمسينات القرن الماضي وأعيد طبعه عدة مرات.

 

[6] -  كان الإمام الخوميني وبعض أنصاره المقربين يطلقونه على بعض من لا يولون القضايا العامة وشؤون الأمة عناية واهتماماً كافيين.

 

[7] - تناول الأخ الشيخ صادق العبادي بيان بعض الفوارق بين الحوزات والمدارس السنية، في دراسة خاصة نشرت في بعض أعداد مجلة "الشهيد". ويمكن الاستفادة من كتاب "الجامعة الزيتونية" لعبد المجيد النجار. "والجامع والجامعة" لزكي الميلاد. ويراجع نتاج "مؤتمر علوم الشريعة" الذي صدر بجزأين عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، و"الأزهر بين الجامع والجامعة" وبعض الدراسات التي أعدت في هذا المجال لنيل درجات جامعية.

 

[8] - راجع على سبيل المثال: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام وكذلك حوادث سنة 80 هـ، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب التاريخ التي أرخت لتلك الفترة من ذكر لتلك الواقعة الخطيرة التي كبدت الأمة الكثير.، وقد أفردت هذه الواقعة أو المصيبة بتآليف كثيرة يصعب حصرها.

 

[9] - راجع: ديوان الكميت بن زيد الأسدي، بتحقيق محمد نبيل، الطبعة الأولى، بيروت، دار صادر، 2000.

 

[10] - وثيقة المدينة: يمكن مراجعتها في كتاب "الوثائق السياسية في العهد النبوي" لمحمد حميد الله، وكتاب "المجتمع المدني" لأكرم ضياء العمري.

 

[11] - إن هناك إمكاناً كبيراً لإيجاد تداخل بين العناصر المكونة للشعب العراقي من عرب وأكراد وتركمان وشيعة وسنة ومن إليهم اكبر بكثير من التداخل الحاصل الآن، بحيث يعرف الناس بعضهم بعضاًَ، وتبنى بينهم روابط مصاهرة، و أواصر قربى، ومصالح مشتركة، وحين يتخذ قادة البلد وعقلاؤه من ذلك هدفاً فإن عليهم أن يضعوا له الاستراتيجية اللازمة والوسائل الفعّالة لتحقيقه، ورسم سياسات أخرى تسهل هذا التداخل وتشجع المواطنين على تحقيقه وبلوغه بوسائل ودوافع ذاتية تصنعها الروابط المشتركة وشبكات الاتصال والمصالح وما إليها، فذلك أعمق أثراً من تلك السياسات الخرقاء العنصرية والطائفية التي اعتمدها "صدام" وأمثاله في نقل قبائل عربية إلى المناطق الكردية بعد تهجير أهلها، وتدمير علاقاتها، فهذه السياسات الخرقاء قد زادت الطين بلة، والمرض علة، فلا بد من تجاوزها بسلام.

 

 

*د. طه جابر العلواني

 

رئيس المجلس الفقهي في أميركا الشمالية

ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والإجتماعية في فيرجنيا

http://www.siss.edu/faculty/taha.htm

================================================

*  مقتطفات من محاضرة قدمت خطوطها العامة في (مسجد السلام) في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2003م. ثم قدمت في محاضرة أخرى، ومن زاوية مغايرة في اجتماع ضم نخبة من العراقيين في أمريكا شارك فيها أساتذة وقيادات ورجال أعمال جمعهم الهم العراقي، ومثلوا أهم ألوان الطيف العراقي في أمريكا للبحث فيما يمكن للمشاركين أن يقدموه لوطنهم الحبيب ولشعبهم العراقي العزيز.