رؤية عروبية لمتغيرات عربية

صبحي غندور

  

============================================================================================================================================

منشورات "مركز الحوار العربي" - واشنطن

خريف العام 2011

====================================================================================================================

 

 

 

المحتويات

 

معيار التغيير الإيجابي المطلوب

*****

"شاهدُ عيَان" على حال الأمَّة ككل!

*****

ثورة ليبية تكتمل بالتَّكامل مع مصر وتونس

*****

خطايا يكرّرها العرب والغرب معاً

*****

أحلامٌ في مواجهة كوابيسَ واقعة

*****

أيُّ فكرٍ وأيّةُ ديمقراطية تختلف حولهما التيّارات الدينية والعلمانية العربية؟!

*****

حملةٌ ضدَّ "الهُويّة العربية".. فما هو بديلها؟!

*****

التكامل المطلوب بين ثورتَيْ "يوليو" و"يناير"

*****

تغييرٌ عربي لصالح متغيّراتٍ دولية!

*****

التدويل والتقسيم يحيطان بمصر.. فما تنتظره قياداتها بعد؟

*****

مؤامرات أمْ مجرّد حراكٍ شعبي؟

*****

موجودٌ "شارعٌ عربي".. لا "مشروعاً عربياً"

*****

ثلاثيات نحتاجها عربيّا

*****

"ثوابت" إسرائيلية في عصر "المتغيّرات" العربية

*****

إسرائيل خسرت نظاماً..  لكن تتطلّع إلى ربح كيانات!

*****

العرب.. إلى أيِّ منقلب؟

*****

أيّة "هُويّة" للحراك من أجل الديمقراطية؟!

*****

ثوراتٌ وانتفاضات على أرضيّة مشاريع فتنةٍ وتدويل

*****

ثوراتٌ عربية.. ومشاريع أميركية وإسرائيلية

*****

ملاحظات على مسار المسيرات الشعبية العربية

*****

قوى التغيير العربية ليست كلّها في سلَّةٍ واحدة

*****

السؤال المحيّر عن موقف أميركا من الثورات العربية

*****

التغيير لن يكون سهلاً.. والنتائج لن تكون سريعة

*****

ماهيَّة هذه المرحلة.. وإلى أين مصريّاً؟

*****

حالُ العرب هو من حالِ مصر

*****

شباب مصر.. و"ثورة 23 يوليو"

*****

مصر أمام إستحقاق التغيير: تغيير في السياسة.. أم في الأشخاص والنظام فقط

*****

من السودان إلى تونس: هواجس خوف وبوارق أمل

 

 


 

معيار التغيير الإيجابي المطلوب

 

تسود الآن رؤيتان لتفسير ما يحدث في المنطقة العربية، ويزداد الشرخ والمسافة بينهما يوماً بعد يوم. الرؤية الأولى تعتبر أنّ "العدوّ" في هذه المرحلة هو "الاستبداد" الذي يجب إسقاطه ولو من خلال الاستعانة بقوًى أجنبية. أمّا الرؤية الثانية فهي على الطرف النقيض، حيث تعتبر أنّ الخطر الأكبر في هذه المرحلة هو التدخّل الأجنبي في شؤون البلاد العربية، وفي السعي الدولي المحموم للهيمنة عليها من جديد، وبأنّ هذا الخطر يستوجب التسامح مع ما هو قائمٌ في داخل بعض الأوطان العربية من أوضاع دستورية واقتصادية وأمنية.

واقع الحال أنّ كلاً من الرؤيتن يحتاج إلى نقدٍ وتصويب. فمواجهة الاستبداد الداخلي من خلال الاستعانة بالتدخّل الخارجي، جلب ويجلب الويلات على البلدان التي حدث ذلك فيها، حيث تغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية، ويكون هذا التدخّل نذير شرٍّ بصراعاتٍ وحروبٍ أهلية، وباستيلاءٍ أجنبيٍّ على الثروات الوطنية، وبنزعٍ للهويّة الثقافية والحضارية الخاصّة في هذه البلدان. أمّا "التسامح" مع الاستبداد من أجل مواجهة الخطر الخارجي فإنّه، عن غير قصد، يدعم كلَّ المبرّرات والحجج التي تسمح بهذا التدخّل. فبمقدار ما يكون هناك استبداد، تكون هنالك الأعذار للتدخل الأجنبي.

لذلك كان مهمّاً استيعابُ دروس تجارب شعوب العالم كلّه، بأنّ الفهم الصحيح لمعنى "الحرّية" هو في التلازم المطلوب دائماً بين "حرّية المواطن" و"حرّية الوطن"، وبأنّ إسقاط أيٍّ منهما يُسقط الآخر حتماً.

فهل ما يحدث الآن في المنطقة العربية هو تعبيرٌ عن هذا الفهم الصحيح لمعنى الحرّية؟!

طبعاً، من الخطأ وضع كلّ الثورات والانتفاضات العربية في سلّةٍ واحدة، ثمّ تأييدها والتضامن معها تبعاً لذلك. فالمعيار هو ليس المعارضة فقط أو أسلوب المسيرات الشعبية، بل الأساس لرؤية أيٍّ منها هو السؤال عن هدف هذه الانتفاضات، ثمّ عن هويّة القائمين عليها. فمنذ انطلاقة الثورة التونسية أولاً، ثمّ المصرية لاحقاً، تأكّدت أهميّة التلازم المطلوب بين الفكر والأسلوب والقيادات في أيِّ حركة تغييرٍ أو ثورة، وبأنّ مصير هذه الانتفاضات ونتائجها سيتوقّف على مدى سلامة هذه العناصر الثلاثة معاً. فالتغيير السياسي، وتحقيق الإصلاحات الدستورية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية، هو أمرٌ منشودٌ ومطلوب لدى العرب أجمعين، لكن من سيقوم بالتغيير وكيف.. وما هو البديل المنشود؟ وما هي تأثيراته على دور هذه البلدان وسياساتها الخارجية..؟ كلّها أسئلة لم تجد حتّى الآن إجابةً عنها في عموم المنطقة العربية، رغم أنّها مهمّةٌ جداً لفهم ما يحدث ولمعرفة طبيعة هذه الانتفاضات الشعبية العربية.

أيضاً، المشكلة في الموقف من هذه الانتفاضات أنّ المعايير ليست واحدةً عند العرب ككُل، فصحيحٌ أنّها تحدث على الأرض العربية وتترك تأثيراتها على المنطقة بأسرها، لكن ما هو معيارٌ شعبيٌّ عربيٌّ عام لدعم هذه الثورة أو تلك يختلف ربّما عن معيار أبناء الوطن نفسه. فمعظم العرب رحّبوا مثلاً بالثورة المصرية، لأنّها أنهت عهداً من سياسةٍ خارجية مصرية كانت لا تعبّر عن مصر وشعبها ودورها التاريخي الريادي، بينما المعيار الأهم لدى الشعب المصري كان مسائل داخلية؛ كالفساد السياسي للنظام السابق، والظلم الاجتماعي الناتج عنه، وغياب المجتمع الديمقراطي السليم.

إنّ حركات التغيير العربية السائدة حالياً تحدث على أرضٍ عربية مجزّأة، حيث ينعكس ذلك على طبيعة الحكومات وعلى ظروف المعارضات، كما أنّها تجري في منطقةٍ تتحرّك فيها قوًى إقليمية ودولية عديدة، لها أجنداتها الخاصة، وتريد أن تصبّ "تغييرات" ما في مصالحها، فضلاً عن حدوث هذه الانتفاضات بعد أن مضت مؤخّراً سنواتٌ عجاف، جرى فيها إطلاق الغرائز الانقسامية الطائفية والمذهبية والإثنية على امتداد الأرض العربية، من محيطها الأطلسي إلى خليجها العربي. وقد يكون الأهمّ في ظروف هذه الانتفاضات، وما يحيط بها من مناخ، هو وجود إسرائيل نفسها ودورها الشغّال في دول المنطقة (منذ تأسيس إسرائيل) من أجل إشعال الفتن الداخلية وتحطيم الكيانات القائمة لصالح مشروع الدويلات الدينية والإثنية.

وإذا كانت أيّة دولة تعني مزيجاً من (الحكم والشعب والأرض)، فإنّ السؤال الهام، الذي سيُطرَح أمام المتغيّرات القادمة في أيِّ من الدول العربية، هو: كيف الحكم، لأيِّ شعب، على أيِّ أرض؟!! علماً أنّه مهما جرى من اختلافٍ على طبيعة الحكم، فإنّ الحسم مطلوبٌ أولاً؛ لوحدة هذا الشعب، ولحرّية ووحدة هذه الأرض.

إذن، التغيير حاصلٌ في المنطقة العربية، بفعل التراكمات المتلاحقة للأحداث كمّاً ونوعاً في المجتمعات العربيّة، لكن السؤال المركزي هو: التغيير في أيِّ اتجاه؟ هل نحو مزيدٍ من السوء والتدهور والانقسام، أم سيكون التغيير استجابةً لحاجات ومتطلّبات بناء مجتمع أفضل؟!

هنا يظهر التلازم الحتمي بين الفكر والأسلوب في أيِّ عمليّة تغيير، كما تتّضح أيضاً المسؤوليّة المشتركة للأجيال المختلفة. فلا "الجيل القديم" معفيٌّ من مسؤوليّة المستقبل، ولا "الجيل الجديد" براءٌ من مسؤوليّة الحاضر. كلاهما يتحمّلان سويّاً مسؤوليّةً مشتركة عن الحاضر والمستقبل معاً. وبمقدار الضّخ الصحيح والسليم للأفكار، تكون الحركة من قبل الجيل الجديد صحيحةً وسليمةَ الخطى نحو مستقبل أفضل. فالغاية الوطنيّة الشريفة، مثلاً، لا تتحقّق إذا كان منطلقها، أو الأسلوب المعتمد من أجلها، هو طائفيٌّ أو مذهبيٌّ أو فئوي.

إنّ التّعامل مع سلبيّات الواقع العربي الراهن، والعمل لإيجاد بدائل إيجابيّة، يتطلّب أوّلاً تحديد جملة مفاهيم ترتبط بالهويّة وبالانتماءات المتعدّدة للإنسان العربي، وبدور الدّين في المجتمع، وبالعلاقة الحتمية بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وبالفهم الصّحيح للعروبة وللمواطنيّة وللعلاقة مع "الآخر"، وفي التلازم المنشود بين القيادات الوطنية غير المرتهنة للخارج، وبين الفكر السليم لروّاد الحركة الشعبية السلمية اللاعنفية.

فالمسألة هي ليست في رفع شعارات الديمقراطية وإسقاط الاستبداد فقط، بل هي في كيفيّة الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد، وبضمان أنّ طريق الديمقراطية لن يمرّ في تجزئة الكيانات، إن لم نقل في إخضاعها للسيطرة الأجنبية أولاً!.

ثمّ ما هي آفاق السياسات الخارجية للبدائل "الثورية"، من حيث العلاقة مع القوى الكبرى وإسرائيل، وهل ستكون "الشرق أوسطية" هي الإطار الجامع لدول المنطقة أم ستكون هناك خطواتٌ جدّية من "الحكومات الجديدة" نحو تكاملٍ عربيٍّ شامل، يعزّز الهويّة العربية المشتركة، ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية؟

المنطقة العربية كلّها بحاجةٍ فعلاً لإصلاحاتٍ دستورية واقتصادية واجتماعية. كل المنطقة بحاجةٍ إلى العدل السياسي والاجتماعي. كل المنطقة بحاجةٍ إلى المشاركة الشعبية الفعّالة والسليمة في الحكم وقرارته. لكن هذا كلّه يحدث وسيحدث على أرضٍ غير مستقرّة، ولا هي موحّدةٌ ولا متحرّرة من أشكال مختلفة من الهيمنة الأجنبية والتدخّل الإقليمي. وهذا الأمر يعيدنا إلى مسؤولية قوى التغيير والمعارضات العربية، وإلى مقدار تنّبهها ألا تكون وسيلةً لخدمة أهداف ومصالح غير أهداف ومصالح شعوبها. هنا كانت المشكلة أصلاً في السابق، حينما عجزت هذه القوى عن البناء السليم لنفسها: فكراً وأسلوباً وقيادات، فساهمت عن قصدٍ أو غير قصد في خدمة الحكومات والحكّام الظالمين الفاسدين وأطالت بأعمار حكمهم، ممّا جعل شرارت التغيير تبدأ من خارج هذه القوى، ومن شبابٍ عربي يحتاج أصلاً إلى الرعاية الفكرية والسياسية السليمة بعدما قام هو نفسه بأسلوب تغييرٍ سليم.

فحبّذا لو يسبق أيَّ حركة تغيير وضوحٌ في الأهداف، وفي برامج العمل، وهويّة البدائل وطبيعتها، فربّما يشكّل ذلك حدّاً أدنى من الاطمئنان، ويحول دون ترك سير الأمور كَحَال من يصطاد في البحر ويجهل ما ستحويه شبكته بعد حين. فجوع الصياد وحده ليس هو المعيار.

ولا يجوز طبعاً أن تكون "الأساليب" السليمة مطيّةً لأفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة، تعمل على سرقة التضحيات والإنجازات الكبرى، وتُعيد تكرار ما حدث سابقاً في المنطقة العربية من تغييرات، كانت تحدث من خلال بعض الانقلابات العسكرية أو الميليشيات المسلحة ثم تتحوّل إلى أسوأ ممّا سبقها من واقع.

الواقع العربي الراهن لا نجد فيه التوازن السليم، ولا التلازم المطلوب، بين المطالبة ب "الديمقراطية والعدالة"، وبين "الحرص على التحرّر والوحدة الوطنية والهوية العربية"، وبين "رفض أسلوب العنف وكافة أشكال التدخل الأجنبي". فمعيار التغيير الإيجابي المطلوب، في عموم المنطقة العربية، هو مدى تحقيق هذه الشعارات والأساليب معاً.

19-9-2011

 


 

=====================================================================

"شاهدُ عيَان" على حال الأمَّة ككل!

 

ما زلت أذكر طرفةً كان يردّدها البعض، لعقودٍ خلت في بيروت، عن قول أحد البيروتيين لصديقٍ له: (عجيبٌ أمْرُ ذلك الشخص "شاهد عيان".. كلَّ يوم أقرأ له تصريحاتٍ في الصحف عن أكثر من قضية، فهو حتماً إنسانٌ مهمٌّ جدّاً، لكن كيف يستطيع السيد "شاهد" أن يكون في أمكنةٍ مختلفة وفي يومٍ واحد؟).

في الأشهر الماضية، كثُر استخدام المحطات الفضائية العربية لظاهرة "السيد شاهد عيان" بل أصبح "هو" مصدر الأخبار بالنسبة لبعضها و"المحلّل السياسي الأول" على هذه المحطات.

طبعاً، من المفهوم سبب الاعتماد على "شاهد عيان" في ظلِّ غياب حرّية العمل الإعلامي، لكن الخوف أن ينتقل المعنى اللغوي الصحيح لتعبير "شاهد عيان": (مَن شاهَدَ بالعين ويشهد على ذلك)، إلى المعنى الخطير في اللهجة العامّية المصرية (عيّان)، أي (شاهد مريض) ولا يُعتدّ بشهادته!.

هناك الآن في الأمَّة العربية الكثير من "شواهد الأعين"، والكثير أيضاً من "الشهداء" الذين يسقطون في معارك "التغيير والديمقراطية" السائدة حالياً، بعدما كان تعبير "الشهداء" يرتبط في ذهن المواطن العربي بمعارك التحرّر من الاستعمار والاحتلال. المؤسف في الواقع الراهن هو الحملة الجارية من بعض مؤيّدي "شهداء الديمقراطية" ضدَّ مناصري "شهداء مقاومة الاحتلال". وكأنّ الخيار الآن في الأمَّة هو بين الشهادة من أجل حرّية المواطن أو الشهادة من أجل حرّية الوطن!.

ما نحتاجه في هذه المرحلة ليس "شهود عيان" فقط على أوضاع "زواريب وأحياء" في هذه المنطقة أو تلك، بل أيضاً "شهود عيان" على أوضاع الأمَّة العربية ككل، وعلى ما يحدث فيها وحولها من متغيّرات سياسية ستُدخِل بعض أوطانها في التاريخ لكن قد تُخرجها من الجغرافيا. 

إذ هل هي صدفةٌ أن يبدأ هذا العام "الديمقراطي" الجاري بإعلان تقسيم السودان، وتحويل جنوبه إلى دولة مستقلة وَضَعت في أولويّاتها بناء العلاقة الخاصة مع إسرائيل؟!

ثم هل هي صدفةٌ أيضاً أن تكون القوات الأطلسية قد حطّت رحالها وهيمنتها في معظم أرجاء المنطقة خلال العقد الماضي، وأن يكون العراق الذي خضع للاحتلال الأميركي/البريطاني، ثمّ دولة جنوب السودان الوليدة بفعل دعم أميركي/أوروبي/إسرائيلي، ثمّ ليبيا المتغيّرة الآن بدعم أطلسي، هي كلّها مناطق نفطية هامّة؟!

وهل كانت صدفةً أيضاً أن تتزامن في ظلّ إدارة بوش الدعوة الغربية للديمقراطية في المنطقة مع احتلال العراق أولاً ثمّ ما تبعه من حربين لاحقاً على لبنان وغزّة؟!. ألم يُخصّص الرئيس الأميركي السابق جورج بوش قمّة مجموعة الدول الثمانية، التي انعقدت في ولاية جورجيا الأميركية صيف العام 2004، من أجل موضوع الديمقراطية في المنطقة بعد عامٍ من احتلال العراق! ألم يقل الرئيس بوش في كلمته بقمّة الناتو في إسطنبول، في العام نفسه، إنّ تركيا التي هي عضو في حلف الناتو ولها علاقات مع إسرائيل، تصلح لأن تكون نموذجاً للدول الديمقراطية المنشودة في العالم الإسلامي؟!

تساؤلاتٌ عديدة تفرضها التطوّرات الراهنة في المنطقة العربية، التي تختلط الآن فيها الإيجابيات مع السلبيات دون فرزٍ دقيق بين ما هو مطلوب وما هو مرفوض. فحتماً هي مسألة إيجابية ومطلوبة أن يحدث التغيير في أنظمة الحكم التي قامت على الاستبداد والفساد، وأن ينتفض النّاس من أجل حرّيتهم ومن أجل الديمقراطية والعدالة. لكن معيار هذا التغيير، أولاً وأخيراً، هو وحدة الوطن والشعب واستقلالية الإرادة الشعبية عن التدخّلات الأجنبية.  فما قيمة أي حركةٍ ديمقراطية إذا كانت ستؤدّي إلى ما هو أسوأ من الواقع القائم، أي إلى تقسيم الأوطان والشعوب ومشاريع الحروب الأهلية!. ثمّ ما هي ضمانات العلاقة مع الخارج الأجنبي، وما هي شروط هذا الخارج حينما يدعم هذه الانتفاضة الشعبية أو تلك؟!

إنّ المشكلة هنا هي ليست في مبدأ ضرورة التغيير ولا في مبدأ حقّ الشعوب بالانتفاضة على حكّامها الظالمين، بل في الوسائل التي تُعتَمد وفي الغايات التي تُطرَح وفي النتائج التي تتحقَّق أخيراً. وهي كلّها عناصر ترتبط بمقوّمات نجاح أيّة حركة تغييرٍ ثوري، حيث لا فصل ولا انفصال بين ضرورة وضوح وسلامة القيادات والأهداف والأساليب. فلا يمكن حصر المراهنة على أسلوب التغيير، الذي يحدث متزامناً مع بقاء القيادات والغايات والبرامج الفعلية مجهولة التفاصيل، كما لا يمكن أيضاً تجاهل مدى علاقة التغيير الديمقراطي المنشود بمسائل الصراعات الأخرى الدائرة في المنطقة، وفي مقدّمتها الصراع العربي/الصهيوني.

 

يُذكّرني ما يحدث حالياً بما جرى في فترة الحرب الباردة بالنصف الثاني من القرن العشرين حيث كانت دول العالم الثالث (وهي المنطقة العربية وإفريقيا وأميركا اللاتينية وقسمٌ كبيرمن آسيا) تعيش همّاً يختلف في طبيعته عن هموم دول "العالم الأول" الغربي الديمقراطي، وهموم "العالم الثاني" الشرقي الاشتراكي... فقد كان الهمُّ الأول لدول "العالم الثالث" هو التحرّر الوطني والقومي من القواعد العسكرية الأجنبية، ومن السيطرة الاستعمارية المباشرة التي ميّزت القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

ف"الديمقراطية" و"العدالة الاجتماعية" هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل حينما يكون هذا الداخل متحرّراً من سيطرة الخارج، لكن عندما يخضع شعبٌ ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون حصراً بما يتناسب مع مصالح المحتل أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر. ويتّضح هذا الأمر أكثر بمراجعة كيفيّة إصرار القطب "الشرقي" الشيوعي العالمي خلال القرن العشرين على تهميش أي دور للإرادة الوطنية الحرّة في المجتمعات التي كانت تسير في فلكه، وعلى تهميشه، بل ورفضه، لأي طرح ديمقراطي وطني مستقل. وكذلك الأمر كان مشابهاً على الطرف الآخر الرأسمالي "الغربي"، الذي كان يريد تهميش كلّ طرحٍ يرتبط بتحرّرٍ وطني أو دعوةٍ لنظامٍ اجتماعيٍّ عادل، ويعمل على إبقاء السيطرة الاقتصادية للشركات الغربية الكبرى، تحت حجَّة "حرّية السوق" والنظام الاقتصادي الحر وشعارات الديمقراطية الرنَّانة.

وقد سعى آنذاك "الشرق" الشيوعي و"الغرب" الرأسمالي، إلى وضع العالم كلّه أمام خيار "الديمقراطية" أو "الإشتراكية"، فإمّا مع هذا الطرف فكرياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بل وحتّى ثقافياً، وإمّا ضدَّه بالكامل إذا جرى الاعتراض أو الاختلاف مع بعض طروحاته!

الآن، وفي بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ووحدانية السيطرة العالمية لمفاهيم القطب الغربي الرأسمالي.. يشهد العالم حالة فوضى من الطروحات التي تتفاعل داخل كلِّ مجتمع.. لكن لم تستطع هذه المتغيّرات الدولية أن تلغي حاجة شعوب العالم كلّهم إلى التلازم: بين الديمقراطية والعدالة الإجتماعية، بين التحرّر الوطني وحرّية المواطنين، بين رفض الاستبداد ومقاومة الاحتلال معاً، بين الانفتاح على العالم وبين الحرص على الهُويّة الوطنية والقومية والحضارية.

أعين العالم كلّه مشدودةٌ الآن إلى ما يحدث في المنطقة العربية من تحوّلات، فهي منطقة الثروات والموقع الإستراتيجي ومقرّ المقدّسات الدينية. لكن بعض هذا "العالم" لا يكتفي بدور "شاهد العيان" أو بالنّظر من بعيد، بل يمدّ يداه ويحاول وضع قدميه أيضاً في أرض هذه التحوّلات ومع صانعيها. لذلك، فإنّ الأمَّة العربية بحاجةٍ الآن إلى "شهود بصائر"، ينظرون إلى ما يحدث في أوطانهم وأمّتهم بقوّة البصيرة لا بما تشاهده الأبصار أو تسمعه الآذان فحسب. الأمّة بحاجةٍ إلى حكّامٍ ومعارضين يدركون ما الذي يفعلونه ببلدانهم، ولا يكتفون بالمراهنة؛ على قوّة الأمن، أو قوّة الشارع، أو قوّة الدعم الخارجي ..

 

30-8-2011
 

=====================================================================

ثورة ليبية تكتمل بالتَّكامل مع مصر وتونس

 

في 20 أغسطس من العام 1971، أعلنت مصر وسوريا وليبيا دستور "اتحاد الجمهوريات العربية". وانطلق هذا الإعلان آنذاك من فكرة تكامل هذه الدول الثلاث في إطار اتّحادٍ يُعزّز القدرة على مواجهة إسرائيل، ويؤكّد على ما جاء سابقاً في قرارات القمّة العربية في الخرطوم بأن لا صلح ولا تفاوض مع إسرائيل ولا تفريط في القضية الفلسطينية، وعلى أهمّية العمل من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة وتسخير كافّة الإمكانات والطاقات العربية من أجل ذلك، إضافةً إلى التأكيد على الهويّة العربية  المشتركة.

طبعاً، لم تُكتَب الحياة طويلاً لهذه التجربة الاتحادية العربية، خاصّةً بعد حرب أكتوبر 1973 والتي شهدت فعلاً تنسيقاً هاماً وتكاملاً بين مصر وسوريا ودول النفط العربي أدّى إلى انتصار أكتوبر، لكن ما حدث فيما بعد على الجبهة المصرية من اتفاقاتٍ مع إسرائيل، برعايةٍ أميركية، أخرج مصر من دائرة الصراع العربي/الإسرائيلي وحتّى من الجامعة العربية نفسها، وانتهت بذلك تجربة "اتحاد الجمهوريات العربية".

كم هي ماسّةٌ الحاجة الآن لإعلان "اتحاد الجمهوريات الثورية العربية" بعد نجاح شعوب تونس ومصر وليبيا بتغيير أنظمتها، وإن بأساليب وظروف مختلفة. فتونس ومصر وليبيا تربط الآن بينهم وحدة حال ووحدة آمال ووحدة مصالح ووحدة مخاطر ووحدة أرض، إضافةً إلى ما يربط بينهم وبين كلّ العرب من وحدة ثقافة وتاريخ ومستقبل. وهذه الدول الثلاث تحتاج حالياً إلى بعضها البعض لإعادة الأمن والاستقرار على أراضيها بلا تدخّلٍ أجنبيٍّ طامع بالسيطرة على الأوطان والثروات، أو مُهدَّدٍ بوقف مساعدات. وهي أيضاً بلدانٌ تُكمّل بعضها البعض في المسائل الاقتصادية والتنموية، المطلوبة في المرحلة القادمة.

فانتصار الشعب الليبي في ثورته سيكون عند محكٍّ هو كيفيّة التعامل مع تحدّياتٍ تفرض نفسها الآن على ليبيا. فالمخاوف هي كبيرةٌ على وحدة القوى الشعبية الليبية وعلى وحدة الوطن نفسه. والتساؤلات هي عديدةٌ حول كيفيّة بناء مؤسسات الدولة، بعد أربعين عاماً من غياب "دولة المؤسسات"، خاصّةً "المؤسسة العسكرية" التي عليها يتوقّف ضبط الأمن وتحقيق الأمان والاستقرار في عموم ليبيا. ثمَّ الخوف هو أيضاً من انعكاس التنوّع القبلي وتعدّد المدارس الفكرية، وسط الجماعات الليبية المتآلفة الآن، على مستقبل النظام السياسي المنشود. فهاهما مصر وتونس تشهدان غلياناً فكرياً وسياسياً حول موضوعات الدستور والانتخابات ومصادر التشريع وتفاصيله، وهما لم تشهدا الحالة العنفية الطويلة التي سادت في ليبيا، ولم تتفكّك فيهما المؤسسات الأمنية والعسكرية، ولم تسيطر على شوارعهما قوًى عسكرية غير نظامية.

أيضاً، أسئلةٌ كثيرة تطرح الآن نفسها حول مستقبل العلاقة مع "حلف الناتو"، وعن مدى تأثير الغرب مستقبلاً في القرار الوطني الليبي وفي الثروة النفطية وفي الأموال الليبية المحجوزة في الدول الغربية. وهذا أمرٌ يرتبط أيضاً بمصير السياسة الخارجية الليبية، وكيف سيكون عليه موقف الحكم الجديد من إسرائيل والقضية الفلسطينية، ومن مسألة "هُويّة" ليبيا، بعدما أبحر حكم القذافي فيها من "العروبة" إلى "الأفرقة" إلى "العالمية" وصولاً إلى ضياع الهويّة نفسها.

هذه المخاوف والتساؤلات المشروعة عن ليبيا وعن مستقبل الحكم والسياسة فيها، يمكن الحدُّ منها إذا أسرع "المجلس الانتقالي" في طلب المساعدة الأمنية من مصر- قبل أن تبادر دول "حلف الناتو" بفرض نفسها- لإعادة بناء المؤسّسات الأمنية الليبية، ثم إقامة تنسيقٍ وتكاملٍ مع مصر وتونس في العديد من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث تشترك الآن هذه الأوطان في الظروف وفي المصالح وفي التواصل الجغرافي والثقافي. 

فالمنطقة العربية بحاجةٍ الآن لهذا النموذج "الاتحادي الثوري العربي"، الذي يؤكّد على ضرورة التلازم بين البناء الديمقراطي وبين الهويّة العربية ورفض الهيمنة الأجنبية.

إنّ المنطقة العربية تعيش مرحلةً خطيرة من الاستقطابات الدولية/الإقليمية في ظلّ غيابٍ متواصل لمشروعٍ عربيٍّ مشترَك ولإرادةٍ عربية مشترَكة.

والآن تنتظر المنطقة العربية نتائج التحوّل السياسي الذي يحدث في مصر بعد "ثورة يناير" لمعرفة كيف سيكون عليه الدور المصري في عموم المنطقة، وما مدى تأثيراته المرتَقبة على المشاريع الدولية والإقليمية.

فالأمل بغدٍ أفضل لا يرتبط بوجود ثوراتٍ وحركات تغييرٍ فقط، بل الأساس هو مرسى هذا التغيير ونتائجه. إذ هل الديمقراطية السليمة، القائمة على وحدةٍ وطنية شعبية وعلى ترسيخ الولاء الوطني وعلى الهويّة العربية وعلى التمسّك بوحدة الكيان الوطني، هي البديل لأنظمةٍ دكتاتورية، أم سيكون بديلَها صراعاتٌ أهلية وتقسيماتٌ جغرافية وتدويلٌ أجنبي؟ وما هي ضمانات حدوث التحوّل نحو الديمقراطية السليمة طالما أنّ المجتمعات العربية موبوءة بأمراض التحزّب القبلي والطائفي والمذهبي والإثني؟ وطالما أنّ هناك أيضاً مشاريع فتنة وتقسيم وتدويل لدول المنطقة؟!

هناك بلا شك إيجابياتٌ تحقّقت حتى الآن، لكن مظلّة السلبيات ما زالت تغطّي سماء المنطقة وتحجب شروق شمس التغيير السليم المنشود فيها. فثورتا تونس ومصر اتّسمتا بالأسلوب السلمي وبالطابع الوطني التوحيدي وبغياب مخاطر التقسيم والتدويل، وبالأمل في تغييرٍ سياسي يصبّ في صالح الوطن والعروبة ونهج المقاومة، لا في صالح الأجانب وإسرائيل ونهج الشرذمة، بينما القلق يحيط بانتفاضاتٍ وثوراتٍ عربية في بلدان أخرى حيث بعضها مُهدَّد بخطر التقسيم، والبعض الآخر بخطر التدويل، والكلُّ بمخاطر الحروب الأهلية والتدخّل الأجنبي.

 

لقد حدثت على الأرض العربية في هذا العام نماذج إيجابية وسلبية: فالسودان خسر جنوبه بعد حربٍ أهلية وتدويلٍ لأزماته وتدخّلٍ أجنبيٍّ سافر في ظلّ عجزٍ رسمي عربي. ثم جاءت ثورتا تونس ومصر لتشعلا الأمل بمستقبلٍ عربيٍّ أفضل، من حيث أسلوب التغيير الذي جرى في هذين البلدين وسلمية التحرك الشعبي والبعد الوطني التوحيدي فيهما. وهاهي الأمَّة العربية تشهد الآن سقوطاً لحكم العقيد القذافي، الذي استمرّ لأربعة عقودٍ سادها الظلم والظلام والاستبداد، ولم يحدث خلالها أي بناءٍ جاد لمؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسة العسكرية. فالمؤسسة العسكرية في كلٍّ من مصر وتونس لعبت دوراً هاماً في إجبار بن علي ومبارك على الاستقالة، كما أنّ دورها الأساس كان، وما زال، هو في حفظ الأمن والاستقرار خلال هذه المرحلة الانتقالية. فما نجح من أسلوبٍ وأهداف في تجربتيْ مصر وتونس لم يُكتَب له بعدُ النجاح في أمكنةٍ عربية أخرى. فالظروف مختلفة، كما هي أيضاً القوى الفاعلة في مصير هذه البلدان الأخرى.

الانتفاضات الشعبية العربية لم تنتظر نضوج الأمور الداخلية في مصر حتّى تبدأ حركتها، وكذلك فعلت القوى الإقليمية والدولية، والتي سبقت أصلاً هذه الانتفاضات بوضع مشاريع وخطط تضمن مصالحها في المنطقة العربية كيفما جاء اتجاه رياح التغيير فيها.

آمال العرب هي على مصر وعلى التكامل معها، لأنّ مصر هي القوّة العربية الأساس في كلّ مواجهة خاضتها الأمَّة العربية على مرِّ التاريخ، ولأنّ المنطقة خضعت دوماً لتأثيرات الدور المصري، إيجاباً كان هذا الدور أم سلباً. لكن التاريخ يؤكّد أيضاً أنّ أمن مصر هو من أمن العرب، وأنّ استقرارها وتقدّمها مرهونان أيضاً بما يحدث في جوارها العربي.

 

23-8-2011


 

=====================================================================

خطايا يكرّرها العرب والغرب معاً

 

طبعاً التاريخ لا يكرّر نفسه. فهناك دائماً ظروف وعناصر جديدة ومتغيّرات تحدث. لكن البشر، كأفرادٍ وجماعات، يكرّرون في سيرة حياتهم الأخطاء ويتجاهلون الدروس والعبر من تجاربهم. هكذا هو الآن حال العرب والغرب معاً. فالبلاد العربية تشهد حالياً مرحلة تحوّل تاريخي ستصنع مستقبل هذه البلاد لعقودٍ من الزمن، تماماً كما حدث منذ مائة عام تقريباً حينما شهدت المنطقة العربية تحوّلاً هاماً بخروجها من الهيمنة العثمانية ونشوء الكيانات العربية المعاصرة.

في تلك الفترة، كانت هناك دواعٍ وأسباب مشروعة لاستقلال العرب عن الدولة العثمانية، التي سيطرت عليها في أيامها الأخيرة اتجاهاتٌ عنصرية تدعو إلى "التتريك" في اللغة والثقافة والسياسة، والتي كانت بذورها تنمو في "جمعية الاتحاد والترقي" وفي "جمعية تركيا الفتاة"، ثم تمكُّن هذه الاتجاهات من حكم تركيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وفوز "دول الحلفاء" فيها.

وبينما كانت بريطانيا تدعم بقوة هذا التحوّل في الحياة السياسية والثقافية التركية، كانت حليفتها (ومنافستها) فرنسا تدعم الأنشطة العربية الداعية لمواجهة "التتريك". وقد عملت بريطانيا وفرنسا معاً على تشجيع ودعم الانفصال التركي/العربي وتقوية المشاعر القومية الخاصة في الأمَّتين بدايةً، وعملتا في مرحلةٍ لاحقة على دعم التتريك واعتماد الأحرف اللاتينية في تركيا، مقابل دعم "التغريب" ومحاربة العروبة في البلاد العربية.

كانت بريطانيا قوّة الدفع الأساسية وراء ثورة الشريف حسين ضدَّ الدولة العثمانية، كما احتضنت فرنسا ودعمت "الجمعية العربية الفتاة " و"المؤتمر العربي" في باريس (1913)، وتكوّنت جمعيات في بيروت تعاونت مع جمعيات في المهجر، وقُدِّمت رسائل مشتركة من بعض هذه الجمعيات الى حكومة فرنسا تلتمس منها السيطرة على منطقة سوريا ولبنان، بينما اتّجه بعض مثقفي العراق نحو الإنجليز حيث أيّد بعضهم بسط الحماية البريطانية على البلاد.

وانتهت تلك الحقبة الزمنية الهامّة بهيمنة بريطانيا وفرنسا على معظم البلاد العربية، بعد تقسيمها وتوزيعها بين القطبين الدوليين آنذاك وفق اتفاقية "سايكس- بيكو". كما شهدت تلك المرحلة انطلاقة مشروع الحركة الصهيونية الذي كرّسه التعهّد البريطاني المعروف باسم "وعد بلفور"، والذي تحقّق بإنشاء الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني.

بريطانيا وفرنسا غاب عنهما درس تاريخ البشرية عموماً بأنّ الشعوب يمكن تضليلها أو قهرها أو احتلالها لفترة من الوقت، لكن هذه الشعوب لا يمكن أن تقبل بديلاً عن حرّيتها، وبأنّ الأوطان العربية لو تجزّأت سياسياً فهي موحّدة في ثقافتها وفي تاريخها وفي همومها وفي آمالها. فهكذا كان تاريخ المنطقة العربية طيلة القرن الماضي: كرٌّ وفرّ مع المستعمر أو المحتل لكن لا خضوع له. كما كان القرن الماضي حافلاً بالحركات والانتفاضات الشعبية المؤكّدة على وحدة الأمَّة أرضاً وشعباً، وإن ازدادت المسافات بين الحكومات والكيانات بعداً.

وحينما تولّت الولايات المتحدة قيادة الغرب والقوى الكبرى، كرّرت خطايا المستعمر الأوروبي في أكثر من مكانٍ وزمان، وهي الآن تدفع الثمن غالياً لهذه الخطايا مما يُهدّد دورها الريادي العالمي، تماماً كما حصل مع بريطانيا وفرنسا في آخر حروبهما بالمنطقة، خلال حقبتيْ الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والتي كانت مصر فيها تقود معارك التحرّر الوطني من المستعمر الأجنبي.

فالقوى الغربية الكبرى لم تدرك بعد أنّها رغم تجزئة المنطقة العربية والهيمنة عليها، ورغم وجود دولة إسرائيل الحاجز بين مشرق العرب ومغربهم، ورغم "العلاقات الخاصة" مع بعض الحكومات، حصلت في المنطقة معارك التحرّر الوطني وثورات الاستقلال وحركات المقاومة ومحاولات التوحّد بين بعض الأوطان، كما حصلت حرب أكتوبر 1973 والحظر النفطي عن الغرب.

لكن للأسف، فكما أنّ الغرب لم يتعلّم من تجارب (قابلية الإستعمار للانكسار)، فإنّ العرب، في المقابل، لم يتعلّموا أيضاً من (قابلية ظروفهم للإستعمار). فالمنطقة العربية (وأنظمتها تحديداً) لم تستفد من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن. لم تستفد المنطقة أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي يتمّ الآن تجاهلها أيضاً، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ دينية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولعودة الهيمنة الخارجية من جديد.

إنّ المنطقة العربية تتميّز عن غيرها من بقاع العالم بميزاتٍ ثلاث مجتمعةٍ معاً: فأولاً، تتميّز أرض العرب بأنّها أرض الرسالات السماوية؛ فيها ظهر الرسل والأنبياء، وإليها يتطلّع كلّ المؤمنين بالله على مرّ التاريخ، وإلى مدنها المقدّسة يحجّ سنوياً جميع أتباع الرسالات السماوية من يهود ومسيحيين ومسلمين.

وثانياً، تحتلّ أرض العرب موقعاً جغرافياً هامّاً، جعلها في العصور كلّها صلة الوصل ما بين الشرق والغرب، ما بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وبين حوض المتوسّط وأبواب المحيطات. ومن هذا الموقع الجغرافي الهام خرجت أو مرَّت كلّ حضارات العالم سواء القديم منه أو الحديث.

وثالثاً، تمتلك أرض العرب خيراتٍ طبيعية اختلفت باختلاف مراحل التاريخ، لكنّها كانت دائماً مصدراً للحياة والطاقة في العالم. فهكذا كان الحال منذ أيام الإمبراطورية الرومانية التي كانت خزائن قمحها تعتمد على الشرق العربي وصولاً اليوم إلى عصر "البترو - دولار" القائم على مخازن النفط في أرضنا.

وهذه الميزات الإيجابية جعلت المنطقة العربية دائماً محطّ أنظار كلّ القوى الطامعة في السيطرة والتسلّط..

أيضاً، تتميّز المنطقة العربية، في تاريخها المعاصر، عن باقي دول العالم الثالث، أنّ الدول الكبرى، الإقليمية والدولية، تتعامل مع هذه المنطقة كوحدةٍ متكاملة مستهدَفة وفي إطار خطّة استراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما تعيش شعوب المنطقة في أكثر من عشرين دولة وفق الترتيبات الدولية الي وضعتها في مطلع القرن العشرين القوى الأوروبية الكبرى.

ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، وما يزال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادّية والبشرية) وإلى صعوبة تأمين مشروع عربي فاعل يواجه المشاريع والتحدّيات الخارجية أو يمكّن من القيام بدورٍ إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية، بل أدّى أيضاً لوجود عجزٍ أمني ذاتي في مواجهة ما يطرأ من أزماتٍ وصراعات داخل المنطقة، ممّا يبرّر بنظر البعض الاستعانة بقوًى أمنية خارجية قادرة على حلّ هذه الصراعات ..

فهناك على الطرف العربي غيابٌ للقرار السياسي بالتعاون والتكامل؛ ثمّ إذا ما توفّر هذا القرار عابَهُ سوء الأسلوب في الإدارة والتعامل والخطط التنفيذية، كما حصل في تجارب وحدوية عربية عديدة أدّت نتائجها إلى مزيدٍ من الشرخ بدلاً من الاتحاد.

إنّ سلبيّات الواقع العربي الراهن لا تنحصر فقط بالمخاطر الناجمة عن عدم إدراك العرب دروس تاريخهم وأهمية موقع أوطانهم وثرواتها، بل أيضاً في سوء رؤية أصحاب الأرض العربية لأنفسهم ولهويّتهم ولكيفية إصلاح أوضاعهم السياسية والاجتماعية.

وتنذر تداعيات العنف الداخلي المسلّح، المرافق الآن لانتفاضاتٍ شعبية في بعض البلدان العربية، بالتحوّل إلى حروبٍ أهلية عربية يكون ختامها نجاح المشروع الإسرائيلي حصراً، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.

طبعاً، الجميع الآن بانتظار ما ستسفر عنه هذه المرحلة من متغيّراتٍ سياسية جذرية في المجتمعات العربية، لا في الحكومات والأشخاص فقط، لكن من المحتّم أنّ القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ليست جالسةً مكتوفة الأيدي ومكتفيةً بحال الانتظار. هي تعمل بدون شك على تهيئة نفسها لنتائج هذه المتغيّرات، بل هي تحاول الآن استثمارها أو حرفها أو محاصرتها أو التحرّك المضاد لها.. وهي كلّها حالاتٌ قائمة مرتبطة بمكان هذه المتغيّرات وظروفها.

فإذا كانت الآن الثورات والانتفاضات العربية ظواهرَ مشرقة واعدة بغدٍ أفضل، فلا يجب أن يحجب النور الحاصل من هذه "المتغيرات" ما يستمرّ "ثابتاً" في المنطقة من خطر الاحتلال الإسرائيلي ومحاولات الهيمنة الأجنبية، في ظلّ أجواء طائفية ومذهبية تنخر الجسم العربي وتهدّد وحدة أوطانه وتُسهّل السيطرة الخارجية عليه.

 

 

18-8-2011

 


 

=====================================================================

أحلامٌ في مواجهة كوابيسَ واقعة

انقاذ سوريا مسؤولية الحكم والمعارضة معاً

 

تواجه سوريا اليوم احتمالاتٍ خطيرة نتيجة استمرار المسيرات الشعبية في عدّة مناطق ومواجهة النظام لها بعنفٍ عسكريٍّ شديد، لا يميّز بين قلّةٍ من المندَسّين وكثرةٍ من المواطنين العُزَّل الذين يصرّون على التّظاهر.

فسوريا تحتاج الآن إلى قراراتٍ شجاعة وحاسمة، من الحكم ومن قوى المعارضة معاً، لمنع انزلاق سوريا إلى حالٍ من الفوضى السياسية والأمنية، وإلى ما قد يكون مقدّمةً لحربٍ أهلية تُهدّد وحدة الكيان السوري ووحدة الشعب السوري، بل وتُنذر بمخاطر التقسيم والتدويل لعموم بلدان منطقة المشرق العربي.

سوريا تحتاج الآن من قيادتها وتحديداً من الرئيس بشار الأسد إلى إصدار مرسوم استثنائي، يُقَرّ فوراً في مجلس الشعب الحالي، يُلغي المادة الثامنة من الدستور التي تمنح حزب البعث خصوصية القيادة في الحكم، وأن يستتبع ذلك حلّ مجلس الشعب وإجراء انتخاباتٍ نيابية حرّة خلال مدّة شهرين لينبثق عنها بعد ذلك حكومةٌ وطنية جامعة.

سوريا تحتاج الآن إلى مهلةٍ زمنية محدّدة يتوقّف فيها العنف والتظاهر والاعتقالات، ولكن يكون فيها الاصرار على الحريات العامة وعلى حقّ وجود الرأي الآخر وحقّ حرّية التفكير والتعبير عبر وسائل متنوّعة غير الشارع.

فصحيحٌ أنَّ هناك من يتآمر على سوريا الآن، ومن يريد الضغط على قيادتها من أجل قضايا إقليمية لا علاقة لها بالإصلاح والديمقراطية، لكن من المهمّ أيضاً وضع حدٍّ لكلّ الأعذار والحجج التي يستند إليها الخارج الأجنبي من أجل الضغط والتدخّل، وبأن يتمّ تصحيح التوازن المنشود بين الإجراءات الأمنية التي تسير بسرعة الصاروخ وبين التباطؤ السلحفاتي الحاصل في تطبيق الإصلاحات الدستورية والسياسية.

وصحيحٌ أنّ هناك أسلحة تُهرَّب من لبنان إلى سوريا وأنّ هناك جماعاتٍ تريد إحداث الفتنة الطائفية المسلّحة في أرجاء الوطن السوري، لكن الردّ الحكومي السوري على هذا الأمر أخذ الكلَّ بجريرة البعض ولم يميّز بين أبرياء وعملاء فاستخدم العنف الشديد، الذي كان وما يزال يُولّد مزيداً من التظاهر ومن الاستنكار إضافةً لإعطاء الفرص لمزيدٍ من "أعمال التخريب والإرهاب" ومن التدخّل الأجنبي المشبوه.

فالمطلوب من الحكم في سوريا هو نفسه المطلوب من قوى المعارضة: عدم رؤية الأمور بعيْنٍ واحدة فقط. فما يراه الحكم الآن من تآمرٍ على سوريا لا يجب أن يحجب الحاجة إلى إصلاحاتٍ دستورية وسياسية جذرية وفورية. كذلك هو واجب قوى المعارضة أن تتنبّه إلى ما تتعرّض له من محاولات توظيف واستغلال من أطراف دولية وإقليمية ولصالح غاياتٍ ومشاريع تخدم هذه الأطراف لا المصالح السورية. فقوى المعارضة ترى الآن الأمور بعينٍ واحدة هي مواجهة النظام، ولا تريد أن ترى ما يحدث من محاولاتٍ أجنبية لتوظيف هذه المعارضة لصالح أجنداتٍ خاصّة بأصحابها. فهذا ما يحدث الآن في ليبيا، وما حدث في السابق مع المعارضات العراقية والسودانية واللبنانية، وما نتج عن هذه التجارب من مخاطر تقسيمية وتدويلية وهيمنة أجنبية.

على قوى المعارضة السورية أن تكون واضحةً في قياداتها وفي برنامجها لا في أساليبها فقط، وأن تدرك أنّ شعار "إسقاط النظام" يعني الآن دعوةً مفتوحة لمزيدٍ من سفك الدماء ولاستخدام العنف ولتهديد الوحدة الوطنية السورية. فالبرنامج الإصلاحي الشامل هو المطلوب وهو الأساس وهو المعيار، كائناً من كان في الحكم. فإذا كانت قوى المعارضة تعجز حالياً عن الاتفاق على قيادةٍ واحدة وعلى برنامجٍ سياسيٍّ مشترَك، واضحةٌ فيه المطالب الإصلاحية الدستورية، ومؤكَّدةٌ فيه هُويّة سوريا العربية ودورها الهام في قضايا المنطقة، فكيف لها أن تنجح في الحكم إن وصلت إليه؟ وهل ستتصارع آنذاك فيما بينها حول تفاصيل البرامج وهُويّة سوريا وسياستها الخارجية؟!

وللأسف، فإنّ أيّة نصيحةٍ تُقال الآن لبعض قوى المعارضة السورية يتمّ وضعها في "خانة خدمة النظام السوري"، وهذا في حدِّ ذاته يحمل مخاوف من طبيعة التوجّهات السياسية الفئوية لهذه القوى ورفضها للرأي الآخر، بينما هي ترفع الصوت عالياً عن الحاجة للديمقراطية. فلا يجوز أن يقبل العرب الآن بما يُمكن تسميته ب"الإرهاب الفكري الثوري العربي" بعد عقودٍ من إرهاب الحكومات. ولا يجوز أيضاً أن يقبل العرب ما يحدث حالياً من "تحريم وتحليل" سياسي ما كان ممكناً قبوله منذ أشهر قليلة. فطلب التدخّل الأجنبي أصبح حلالاً ومشروعاً في أكثر من بلدٍ عربي لحلّ مشاكل عربية داخلية. والتنبيه إلى ما هو حاصلٌ من تآمرٍ أجنبي وإسرائيلي على أوطان العرب وثرواتهم ووحدة بلدانهم وشعوبهم أصبح لدى بعض "الثوار العرب" من المحرّمات السياسية! وحينما نسأل ويسأل غيرنا من يقود هذه الثورات؟ تكون الإجابة هو الشارع و"الشباب" دون اسمٍ أو عنوانٍ أو برنامجٍ فكريٍّ أو سياسي!. إذن، إلى أيِّ منقلَبٍ نحن منقلبون وكيف يتمّ أخذ هذه الأوطان إلى مصيرٍ مجهول، منطلقه غير معروف وأرضه مليئةٌ بألغام الانقسامات الطائفية والإثنية؟!.

أليس محزناً أنِ انتقل تاريخ العرب من الحالة القبلية والجاهلية إلى حالةٍ حضارية عند مجئ الدعوة الإسلامية، ولمَّا تتغيّر بعدُ مفاهيم العرب وممارساتهم حول انتقال السلطات عموماً؟ فالتاريخ العربي عاش حصراً عصراً استثنائياً بعد وفاة الرسول محمد (ص)، خلال حقبة الخلفاء الراشدين الأربعة، حينما جرى اختيار الحاكم بالبيعة وليس بالقوّة أو بالوراثة، علماً أنّ ثلاثةً من الخلفاء قد قضوا نحبهم قتلاً!!. وهاهو التاريخ العربي يتواصل قائماً منذ بدء الدولة الأموية على حكم الوراثة إلى حين مجئ حكمٍ آخر عن طريق القوّة العسكرية.  

أليس مؤسفاً أنّ الحلم العربي الذي يُراود منذ عقود شعوب الأمَّة العربية بإقامة تكاملٍ بين أوطان العرب قد تحوّل إلى كابوس التقسيم الجاثم على الصدور حالياً؟!

أليس مؤسفاً أيضاً، أن يكرّر العرب خطيئة الاعتماد على الأجنبي لحلّ مشاكلهم الداخلية وأن تسود الآن منطقتهم أفضل الفرص لتكريس الهيمنة الأجنبية والإسرائيلية، حيث يُتوقَّع ألا يكون بمقدور أحدٍ أن يُعارض دعوة إسرائيل للاعتراف بها كدولةٍ يهودية، في منطقةٍ تشهد ولادة دويلاتٍ على أساسٍ ديني وإثني؟! وحيث تهدف إسرائيل لأن تكون هي الدولة الأقوى بل المهيمنة على كلّ منطقة الدويلات الدينية المنتظرَة!.

إنّ الحكومات العربية مسؤولةٌ أولاً وأخيراً عمّا وصلنا إليه الآن من حال، لكنَّ ذلك لا يشفع لقوى المعارضة العربية أن لا تقوم هي أيضاً بمسؤولياتها في الحفاظ على وحدة الأوطان والشعوب، بل إنّ هذه القوى هي الطرف الأساس المعنيُّ بذلك.

إنّ الأولوية الآن هي لبقاء وحدة الأوطان، ولعدم قلب خيار الحكومات (إمّا الحاكم أو الفوضى) إلى خيار المعارضات (إمّا الديمقراطية أو التقسيم). فأين "أمُّ الصبي" في كل ما يحدث، ولِمَ لا يكون التركيز الآن على تحقيق إصلاحاتٍ جدّية دستورية وسياسية واقتصادية تُمهّد لتغييرٍ شامل في المجتمعات لا في الأنظمة والحكومات فحسب؟ فبناء المجتمعات الديمقراطية أساسه التعايش مع "الآخر" لا الانفصال عمَّن هم أبناء الوطن نفسه لكن من طوائف أو مذاهب أو إثنيات أخرى. وهذا البناء الديمقراطي السليم يتطلّب أيضاً بناء حركات تغييرٍ شعبية، واضحة المعالم والبرامج والقيادات، حتّى لا تتوه الأمَّة من جديد وحتّى لا تتكرّر فيها مأساة حركات التغيير العسكرية والسياسية التي شهدها العرب في القرن العشرين.

وكما رفضت الأمَّة العربية سابقاً "ثنائيات" كثيرة فُرِضت عليها، مثل: إمّا أن تكون مع الشرق الشيوعي أو الغرب الرأسمالي، فإنّها ترفض الآن "ثنائية" إمّا مع التحرّر من هيمنة الأجنبي أو مع الديمقراطية. فالأمَّة العربية بحاجةٍ الآن إلى تيَّار ثالثٍ واعٍ علّمته دروس التجارب المُرّة أن يرفض استبداد الأنظمة، وأن يرفض أيضاً كلَّ محاولات الهيمنة الأجنبية ومشاريع التدويل والتقسيم للأوطان والشعوب، وأن يُحافظ مخلصاً على هُويّة الأوطان العربية، وأن لا يجعل ثمن الحصول على ديمقراطية الحكم التخلّي عن حرّية الوطن.

 

10-8-2011


 

=====================================================================

أيُّ فكرٍ وأيّةُ ديمقراطية

تختلف حولهما التيّارات الدينية والعلمانية العربية

 

تشهد المنطقة العربية، منذ بدء تفجّر الانتفاضات الشعبية في مطلع هذا العام، حراكاً فكرياً مرادفاً للحراك الشعبي في الشارع، يتمحور حول دور الدين والحركات الدينية في المجتمعات والدساتير ومؤسّسات الدولة. ولعلَّ ما يحدث الآن في مصر وتونس من تباينات بين أتباع الحركات الدينية والحركات العلمانية لدليلٌ على هذه الحيوية الفكرية في أوطانٍ تحاول بعد خلع حكّامها السابقين بناء ذاتها. لكن النقطة المركزية التي يتمحور الاهتمام السياسي والإعلامي العربي الآن حولها، هي مسألة الديمقراطية كعملية إجرائية ترتبط بآليات انتخابية أو بمؤسسات دستورية، دون الانتباه إلى أنّ أساس العطب في الجسم العربي هو في الفكر أولاً وقبل أن يكون في طبائع نظم الحكم أو كيفيّة المشاركة الشعبية في الحياة العامّة.

والحديث عن الفكر لا يعني فقط النُّخَب المثقفة في المجتمع، بل هو شاملٌ لما يسود الأمَّة من تراث فكري ومعتقدات وعادات وتقاليد ومفاهيم لأمور الدين والدنيا، شكّلت بمجملها الواقع الثقافي العربي الراهن.

فهناك انقسامٌ في المجتمعات العربية والإسلامية بين تيّارين أو منهجين فكريين؛ أحدهما يدعو لمقولة "العلمانية"، والآخر إلى الأخذ بالمنهج "الإسلامي". وكلٌّ من أصحاب المدرستين يحاول الربط بين منهجه وبين سمات إيجابية أخرى حدثت أو تحدث في المجتمع، بينما لا علاقة لها في الأصل بالمنهج الفكري نفسه. فالتيّار "العلماني" يعتبر معارك التحرّر القومي ضدّ الاستعمار في القرن العشرين، وكذلك معارك العدالة الاجتماعية، وكأنّها منجزات للتيّار الفكري العلماني، بينما نجد على الطرف الآخر من يعتبر مثلاً ظاهرة المقاومة حالياً بمثابة انتصار للمنهج الفكري الإسلامي.

أعتقد أنّ في الحالتين ظلماً للحقيقة. فقضايا التحرّر والهُويّة القومية والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاحتلال ومحاربة الظلم، أينما كان وكيفما كان، هي كلّها قضايا إنسانية عامّة لا ترتبط بمنهج فكري محدّد. فلا الدين يتعارض مع هذه القضايا ولا الابتعاد عنه يعني تخلّياً عنها. وهناك أمثلة عديدة عن مجتمعات كافحت من أجل هذه القضايا لكن اختلفت دوافعها الفكرية ونظرتها لدور الدين في الحياة.

إذن، أساس الخلاف بين التيّارين "العلماني" و"الإسلامي" هو فكريٌّ محض ولا يجوز إلحاق القضايا السياسية بطبيعة هذا الخلاف. فالهُويّة الوطنية أو القومية مثلاً أصبحت ضحيّةً لهذا الخلاف بين التيّارين في المنطقة العربية بينما لا تتناقض إطلاقاً الهُوية الثقافية للشعوب مع معتقداتها الدينية. كذلك هو أسلوب المقاومة ضدّ المحتل أو المستعمر حيث هو وسيلة تحرّر استخدمتها في أممٍ عديدة قوًى مختلفة الألوان والمناهج الفكرية.

إنّ العكس هو المفروض أن يحدث بين التيّارين "الإسلامي" و"العلماني"، أي أن يبقى الاختلاف قائماً في المسألة الفكرية وأن يتمّ البحث عن المشترَك من القضايا الوطنية والاجتماعية. فالاحتلال الإسرائيلي مثلاً لم يميّز، وما يزال، بين التيّارين في الأراضي المحتلة، إذ المستهدَف هو الفلسطيني إن كان من هذا الدين أو ذاك، أو إن كان "علمانياً" أو "إسلامياً". الأمر نفسه ينطبق على القضايا الاجتماعية حيث لا ديناً أو لوناً فكرياً للفقر أو للظلم الاجتماعي.

أمّا الاختلاف على الجانب الفكري، فهو ظاهرة صحيّة إذا حصلت في مجتمعاتٍ تصون التعدّدية الفكرية والسياسية وتسمح بالتداول السلمي للسلطة وباحترام وجود ودور "الرأي الآخر". وهي مواصفات وشروط لمجتمعات تعتمد الحياة السياسية الديمقراطية، وتكون مرجعيتها هي القوانين والدساتير المجمَع بين كلّ الأطراف على الالتزام بها. فلا ينقلب طرَفٌ على الآخرين وحقوقهم أو على الدستور ذاته لمجرّد الوصول إلى الحكم. هكذا هو حال التجربة التركية الآن، كما هي ظاهرة الأحزاب الدينية في المجتمعات الأوروبية العلمانية، حيث يتمّ تداول السلطة عن طريق الانتخاب بغضِّ النّظر عن طبيعة الأحزاب السياسية وهويّاتها الدينية أو العلمانية.

 

لقد ظهرت في القرن العشرين الأنظمة العلمانية اللادينية، وهي التي ارتبطت بالفلسفة الماركسية - اللينينية والتي اعتبرت أنّ "الدين هو أفيون الشعوب"، وكانت ذات سمةٍ ديكتاتورية في الحكم وفاصلة للدين عن المجتمع (وليس عن الدولة فقط). بينما نجد أنّ التجربة العلمانية الغربية، الفاصلة للدين عن الدولة وغير الرافضة للدين المسيحي، ارتبطت بأنظمة حكم ذات نمطٍ ديمقراطي في الداخل وتوجّهٍ استعماري للشعوب الأخرى، وعلى أساس مصالح اقتصادية فرضتها الثورة الصناعية في أوروبا وحاجتها لأسواق ولمصادر خام.. وهكذا كانت العلمانية موضع رفضٍ وإدانة في المجتمعات العربية والإسلامية بحكم ما كان سائداً لها من "نماذج" في المعسكرين الشيوعي والرأسمالي.

إذن، ليس هناك نموذج تطبيقي واحد لمصطلح "العلمانية"، بل حتّى في الدائرة الغربية الديمقراطية نجد اختلافاً في المفهوم وفي التطبيق بين العلمانية الأوروبية والعلمانية الأميركية. "العلمانية الأميركية" لا تفصل الدين عن الدولة كلّياً، كما هو الحال مثلاً في فرنسا وتجارب أوروبية أخرى، العلمانية الأميركية تشجّع على الإيمان الديني ولا تحاربه، وتقوم المؤسسات الحكومية بدعم المراكز والمؤسسات الدينية (وبعضها إسلامي) وتتمّ الصلاة في مؤسسات حكومية وتشريعية بشكلٍ مشابه تماماً لما يحصل في كثيرٍ من البلدان العربية والإسلامية. وحقوق الناس في ممارسة شعائرهم الدينية (بما في ذلك مسائل الشكل واللباس) هي مصونةٌ بحكم القانون الأميركي. وهذا أمرٌ لا توفّره مثلاً التجربة العلمانية الفرنسية أو حتّى التركية.

فالعلمانية، في التجربة الأميركية، هي لضمان حقوق كلّ الطوائف والأديان ولمنع هيمنة إحداها على الأخرى، بينما تمّ استخدام العلمانية في تجارب عالمية أخرى للحدِّ من دور رجال الدين في المجتمع، كما في التجارب الأوروبية، أو للحدِّ من دور الدين عموماً في حياة الناس، كما كانت عليه التجارب الشيوعية. بالمحصّلة، ليس هناك "علمانية عالمية واحدة" لقبولها أو رفضها. فالعلمانية أيضاً أصبحت مدارس مختلفة.

لذلك، هناك حاجةٌ للتوافق المبدئي بين مختلف الاتجاهات الفكرية العربية على ضرورة الفرز والتمييز بين الجماعات التي تعمل تحت لواء أيَّة نظرية فكرية. فليس هناك مفهومٌ واحد لهذه النظريات حتّى داخل المعتقدين بها بشكل عام، ثم ليس هناك برنامج سياسي أو تطبيقي واحد حتّى بين الجماعات والحركات التي تتّفق على مفهوم واحد. هذا الأمر ينطبق على الجماعات "العلمانية" و"الإسلامية" كما على أتباع النظريات الشيوعية والرأسمالية، وعلى "المحافظين" والليبراليين" في العالم كلّه. كذلك صحّت هذه الخلاصة على التجارب القومية العربية، ومنها "الناصرية" و"البعث" وغيرهما، حيث غابت عن هذه التجارب وحدة المفاهيم الفكرية والحركية.

إذن، الموضوعية تفرض عدم وضع الجماعات الإسلامية كلّها في سلّةٍ واحدة (فكراً وممارسة)، كذلك بالنسبة للقوى العلمانية.. وبالتالي عدم استخدام التعميم في التعامل مع أيَّة حالة.

ففي التيَّار الديني الإسلامي اتجاهاتٌ تؤكّد على خصوصية العلاقة بين العروبة والإسلام، وعلى الانسجام بين الديمقراطية والفكر الإسلامي، وعلى رفض استخدام العنف في الدعوة ووسائل التغيير، بل تحرِّم استخدام العنف في ذلك. وهي قوًى تريد تغيير المجتمع أولاً، بينما تريد "قوًى إسلامية" أخرى الوصول إلى السلطة أولاً، أو تحبذ استخدام العنف، أو ترى تناقضاً بين الدين والديمقراطية.

كذلك من الضروري أيضاً التفريق بين دعاة العلمانية وعدم وضعهم جميعاً في خانةٍ واحدة، فهناك علمانيون يؤكّدون على دور الدين في المجتمع ويدعون للمجتمع المدني ولحقوق المواطنة للجميع دون ابتعادٍ عن القيم الدينية.

***

إنّ الإسلام، حسب اجتهادي، هو "دين وضوابط مجتمع"، ولا يجب الفصل بين الدين والمجتمع، لكن يتوجّب الفصل بين الدين ومؤسسات الدولة، إذ المعروف أنَّ أساليب الحكم ومفاهيم الدولة قد اختلفت إسلامياً من حقبةٍ لأخرى، حتّى في سياقها التاريخي، منذ بدء الدعوة ثم في فترة الخلفاء الراشدين، ثمّ ما جرى بعد ذلك من حكمٍ عائلي متوارث تحت مظلّة "الخلافة الإسلامية" وصراعات بين حقبة وأخرى، واختلاف في المفاهيم وصيغ الحكم ومرجعياته.

إنّ المنطقة العربية هي مهد كلّ الرسالات السماوية والأنبياء ومواقع الحجّ الديني، وبالتّالي فإن تغييب أو تهميش دور الدين فيها هو مسألة مستحيلة عملياً. أيضاً، فإنّ العلمانية وحدها ليست هي الحل لمشاكل المجتمع العربي. ولقد شهدت بعض البلاد العربية والإسلامية تجارب لأنظمة حكم علمانية، لكن بمعزل عن الديمقراطية السياسية في الحكم، وعن العدالة في المجتمع، فلم تفلح هذه التجارب في حلّ مشاكل دولها ولم تحلّ مشكلة غياب الديمقراطية.. ولم تحلّ مشكلة الأقليّات.. ولم تحلّ المشاكل الاقتصادية.. ولم تحلّ مشكلة الحكم بالوراثة أو بالقوّة العسكرية.. ولم تحقّق التقدّم والعدالة الاجتماعية لشعوبها.

إنّ المجتمع العربي بحاجةٍ إلى إصلاحات فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية.. وهذه الإصلاحات لا تتناقض مع القيم الدينية ولا تتعارض مع المفاهيم الإنسانية المعاصرة، وفي ذلك مسؤولية مشتركة لقوى "علمانية" و"دينية" تختلف فكرياً لكنّها قد تشترك في برنامجٍ نهضويٍّ جديد تحتاجه الأمَّة العربية كلّها.

1-8-2011

 

 

=====================================================================
حملةٌ ضدَّ "الهُويّة العربية".. فما هو بديلها؟!

لم يكن القصد البريطاني والفرنسي من رسم الحدود بين أجزاء الأرض العربية مجرّد توزيع غنائم بين الإمبراطوريتين الأوروبيتين في مطلع القرن الماضي، بدلالة أنّ البلدان العربية التي خضعت لهيمنة أيٍّ منهما تعرّضت هي نفسها للتجزئة، فالهدف الأول من تلك التجزئة كان إحلال هويّاتٍ محلّية بديلاً عن الهويّة العربية المشتركة، وإضعافاً لكلّ جزء بانقسامه عن الجزء العربي الآخر.

ورافقت هذه الحقبة الزمنية من النصف الأول من القرن العشرين، محاولات فرض التغريب الثقافي بأشكال مختلفة على عموم البلدان العربية، والسعي لزرع التناقضات بين الهويات الوطنية المستحدثة وبين الهويات الأصيلة فيها كالعروبة الثقافية والإسلام الحضاري، ثم أيضاً بين العروبة والدين في أطر الصراعات الفكرية والسياسية.

وقد تميّزت الحقبة الزمنية اللاحقة، أي النصف الثاني من القرن العشرين، بطروحات فكرية وبحركات سياسية يغذّي بعضها أحياناً المفاهيم الخاطئة عن الوطنية والعروبة والدين، أو لا تجد في فكرها الآحادي الجانب أيَّ متّسعٍ للهويّات الأخرى التي تقوم عليها الأمَّة العربية. فهويّة الأمّة العربية هي مزيج مركّب من هويّات (قانونية وطنية) و(ثقافية عربية) و(حضارية دينية). وهذا واقع حال ملزِم لكل أبناء البلدان العربية حتى لو رفضوا فكرياً الانتماء لكلّ هذه الهويّات أو بعضها.

الآن نجد على امتداد الأرض العربية محاولات مختلفة الأوجه، ومتعدّدة المصادر والأساليب، لتشويه معنى الهوية العربية ولجعلها حالة متناقضة مع التنوع الإثني والديني الذي تقوم عليه الأرض العربية منذ قرون عديدة.

وأصبح الحديث عن مشكلة "الأقليات" مرتبطاً بالفهم الخاطئ للهويتين الوطنية والعربية وبأنّ الحلّ لهذه المشكلة يقتضي "حلولاً" انفصالية كالتي حدثت في جنوب السودان وفي شمال العراق، وكالتي يتمّ الآن الحديث عنها لمستقبل عدّة بلدان عربية. وهذا الأمر هو أشبه بمن يعاني من مرضٍ في المعدة فتُجرَى له عملية جراحية في الرأس!!. إذ أساس مشكلة غياب "حقوق بعض الأقليات" هو الوضع الدستوري وليس قضية "الهويّة". ففي الولايات المتحدة نجد اعتزازاً كبيراً لدى عموم الأميركيين بهويتهم الوطنية الأميركية (وهي هُوية حديثة تاريخياً) رغم التباين الحاصل في المجتمع الأميركي بين فئاته المتعدّدة القائمة على أصول عرقية وإثنية ودينية وثقافية مختلفة. فمشكلة الأقليات موجودة في أميركا لكنّها تُعالج بأطر دستورية وبتطويرٍ للدستور الأميركي، كما حدث أكثر من مرّة في مسائل تخصّ مشاكل الأقليات، ولم يكن "الحل الأميركي" لمشاكل أميركا بالتخلّي عن الهوية الأميركية المشتركة ولا أيضاً بقبول النزعات الانفصالية أو تفتيت "الولايات المتحدة". عجباً، كيف تُمارس الإدارات الأميركية نهجاً متناقضاً في المنطقة العربية وكيف تُشجّع على تقسيم الشعوب والأوطان وعلى إضعاف الهوية العربية عموماً!!  كما أستغرب فعلاً أن تكون بعض الأصوات العربية المقيمة في أميركا والغرب، في إطار المفكرين أو الناشطين حالياً مع معارضات عربية، تُساهم في هذه الحملة المقصودة ضدّ الهوية العربية أو تؤيد الآن حركات الانفصال والتقسيم لأوطان عربية، وهي تُدرك ما أشرت إليه عن خلاصات التجربة الدستورية الأميركية وتجارب دستورية أوروبية مشابهة.

أيضاً، نجد في داخل بعض الأوطان العربية أنّ ضعف الولاء الوطني لدى بعض الناس يجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة، وربّما لاستخدام العنف من أجل تحصيل "الحقوق"، كما نجد من يراهنون على أنّ إضعاف الهوية الثقافية العربية أو الانتماء للعروبة بشكل عام، سيؤدّي إلى تعزيز الولاء الوطني، أو من يريدون إضعاف التيّارات السياسية الدينية من خلال الابتعاد عن الدين نفسه.

إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لكلٍّ من "ثلاثيات الهوية" في المنطقة العربية (الوطنية والعروبة والدين) هو الحلُّ الغائب الآن في أرجاء الأمَّة العربية. وهذا "الحل" يتطلّب أولاً نبذاً لأسلوب العنف بين أبناء المجتمع الواحد مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توفّر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي، وللتنسيق والتضامن المنشود مستقبلاً بين الدول العربية.

إنّ الدين يدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة. إنّ العروبة تعني التكامل ورفض الانقسام. إنّ الوطنية هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية. فأين نحن من ذلك كلّه؟

إنّ ضّعف الولاء الوطني يُصحَّح دستورياً وعملياً من خلال المساواة بين المواطنين في الحقوق السّياسية والاجتماعيّة، وبالمساواة أمام القانون في المجتمع الواحد، وبوجود دستور يحترم الخصوصيات المكوّنة للمجتمع.

كذلك هو الأمر بالنّسبة للهويّة العربية، حيث من الضروري التمييز بينها وبين ممارسات سياسية سيّئة جرت من قبل حكومات أو منظمات أساءت للعروبة أولاً وإن كانت تحمل شعاراتها. فالعروبة هي هويّة ثقافية جامعة لا ترتبط بنظام أو حزب أو مضمون فكري محدد، وهي تستوجب تنسيقاً وتضامناً وتكاملاً بين العرب يوحّد طاقاتهم ويصون أوطانهم ومجتمعاتهم.

ما حدث ويحدث في العقود الثلاث الماضية يؤكّد الهدف الأجنبي بنزع الهويَّة العربية، عبر استبدالها بهويّة "شرق أوسطية"، بل حتى نزع الهويّة الوطنية المحلّية والاستعاضة عنها بهويّات عرقية ومذهبية وطائفية .. وفي هذا التحدّي الأجنبي سعيٌ محموم لتشويه صورة الإسلام والعروبة معاً، من أجل تسهيل السيطرة على الأوطان العربية وثرواتها.

فأن يكون العرب أمَّةً مستباحة لحينٍ من الزمن، فهذا مردّه لضعفٍ وعطبٍِ في الداخل، ولجبروت الخارج. لكن عدم علاج الضعف وإصلاح العطب هو الذي سيتيح للخارج دوماً فرصة التدخّل والهيمنة وإشعال الفتن الداخلية.

المؤلم في واقع الحال العربي أنّ الأمَّة الواحدة تتنازع الآن فيها "هويّات" مختلفة على حساب الهويّة العربية المشتركة. بعض هذه الهويات "إقليمي" أو "طائفي"، وبعضها الآخر "أممي ديني أو عولمي اقتصادي"، كأنَّ المقصود هو أن تنزع هذه الأمَّة ثوب هويّتها ولا يهمّ ما ترتدي من بعده، من مقاييس أصغر أو أكبر، فالمهمُّ هو نزع الهويّة العربية !

لقد أكّدتُ، منذ بدء الثورات والانتفاضات الشعبية العربية في مطلع هذا العام، على أهمّية التلازم بين مسائل: "الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية". فهذا التلازم بين هذه القضايا الثلاث يصون كلٌّ منها الآخر ويُحقّق مصالح الناس والأوطان والأمَّة معاً. فكل القوى الأجنبية التي تدعم "الديمقراطية لا غير"، تدعم أيضاً التخلّي عن الهويّة العربية وتُشجّع على التناقض مع حركات التحرّر والمقاومة، وسبيلها لذلك هو تشجيع الانقسامات الطائفية والإثنية حيث تضعف أولاً "الهوية الوطنية" ويكون "العدو" هو "الآخر في الداخل" وليس الطرف المحتل أو الأجنبي. كذلك فإنّ إضعاف "الهوية العربية" يبرّر العلاقة مع الأجنبي والاستنجاد به، كما يُوهن التضامن الشعبي العربي مع القضية الفلسطينية أو أي قضية عربية ترتبط بالمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي ومن يدعمه.

لو أنَّ كيانات هذه الأمَّة العربية قائمةٌ على أوضاعٍ دستورية سليمة تكفل حقّ المشاركة الشعبية في الحياة السياسية وتصون الحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين، هل كانت لتعيش ضعفاً وتنازعاً كما حالها الآن؟.

فالأوضاع السائدة الآن في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين والسودان والعراق ولبنان ومصر وفلسطين والصومال، إضافةً إلى ما يحدث في بعض الدول الأخرى، كلّها أزمات تحمل مشاريع كوابيس لن يكون أيٌّ منها محصوراً في دائرته المباشرة، بل ستكون المنطقة بأسرها ساحةً لها ولانعكاساتها.

مشاريع كوابيس بدأت كلّها أحلاماً من أجل "الحرية" أو "الديمقراطية" أو حقوق "الأقليات"، ثم تعثّرت بعد ذلك في قيودِ عبوديةِ أوضاعها الداخلية. فما هو مشتركٌ بين هذه الأوطان/الأحلام أنّ مواقع "الحالمين" جميعهم كانت تفتقد للأرض الوطنية الصلبة، وللوحدة الوطنية السليمة، وللبناء الدستوريّ السليم، وللفهم الصحيح لمسألة "الهويّة".

25-7-2011


 

=====================================================================

التكامل المطلوب بين ثورتَيْ "يوليو" و"يناير"

 

حرص المفكر والكاتب نديم البيطار، في كتاباته العديدة خلال القرن الماضي، على إبراز مسألتين لهما علاقة بما يحدث الآن في مصر والأمَّة العربية. المسألة الأولى هي تأكيد الدور المحوري والطليعي لمصر في المنطقة، والثانية هي في استخدام تعبير "الانقلاب" بدلاً من "الثورة"، كما جاء في مؤلَّفه الضخم: "الإيديولوجية الانقلابية". وأجد فعلاً أنّ الدكتور بيطار قد أصاب في المسألتين تماماً. فمحورية دور مصر بالمنطقة (سلباً أم إيجاباً) لم تعد موضع نقاش وجدل بعد ما حصل في العقود الستة الماضية؛ من تأثير إيجابي كبير أولاً لدور مصر جمال عبد الناصر، ثمّ من التأثيرات السلبية الخطيرة التي حدثت في حقبتَيْ السادات ومبارك.

أمّا تعبير "الانقلاب"، فهو من التعابير التي تعرّضت للتشويه بفعل الممارسات الخاطئة باسمه، لا بسبب معنى التعبير نفسه. تماماً كما حدث مع تعبير "الاستعمار" الذي يعني في أصله وأساسه عملاً إيجابياً خيِّراً (أي الإعمار)، بينما حوّلت ممارسة قوى الاحتلال الأجنبي معاني التعبير إلى الهدم والاستغلال والدّمار. هكذا حصل أيضاً مع تعبير "الانقلاب" الذي ارتبط بالجيوش العسكرية وأحياناً كثيرة بممارسات سيّئة ودون تغيير فعلي في المجتمعات، بينما ساد اعتقاد أنّ "الثورات" هي البديل "الشعبي" عن "الانقلابات العسكرية" وبأنّ "الثورة" تعني التغيير الشامل لا ذاك المحصور بالحكم فقط. فالمزج بين أصول تعبيريْ "الثورة" والانقلاب" هو الذي يُحقّق المعنى الصحيح، إذ أنّ الثورات هي فعلاً حالة شعبية عامّة، لكنّها ترتبط بأسلوب أكثر ممّا هي انعكاسٌ لهدف. هي تعبيرٌ عن غضبٍ شعبيٍّ عارم ضدَّ نظامٍ سائد، لكنّها لا تعني بالضرورة تحقيق هدف التغيير أو الانقلاب السياسي على الواقع المرفوض.

في مصر، نجد أنّ "ثورة 23 يوليو" في العام 1952 بدأت "انقلاباً عسكرياً"، لكن هذا "الانقلاب" تحوّل إلى ثورة شعبية عارمة بعدما وقف معظم الشعب المصري مع التغيير الذي حدث ونقَل مصر من حال نظام الفساد وحكم "النصف بالمائة" والارتهان ل"المستعمر" البريطاني، إلى حال من التحرّر الوطني والعدالة الاجتماعية والتنمية الوطنية وإنصاف الفلاحين والعمال والفقراء وتخليص مصر من تحكّم الإقطاع ورأس المال المستغل والمرتبط آنذاك بالمصالح البريطانية والفرنسية.

فهكذا كانت مشاكل مصر ومعظم المنطقة العربية في منتصف القرن الماضي: نظام ملكي إقطاعي مدعوم من بريطانيا، التي كانت تتقاسم منذ أواخر القرن التاسع عشر مع فرنسا الهيمنة على بلدانٍ عربية عديدة واحتلالها. ولأنّ مصر عبد الناصر وقفت إلى جانب ثورة الجزائر ودعمتها في حركتها من أجل التحرّر من الاحتلال الفرنسي، تآمرت فرنسا مع بريطانيا وإسرائيل للحرب على مصر في العام 1956 بعد قرار ناصر بتأميم قناة السويس. وهكذا أيضاً بدأ دور مصر العربي والإفريقي في دعم "ثورات" التحرّر الوطني من قوى "الاستعمار" الأجنبي. فتعبير "الثورة" في حقبات عديدة من القرن العشرين كان يعني "التحرّر الوطني من الاحتلال" أو كان يحمل مضامين اجتماعية ضدّ أنظمة احتكار واستغلال. ولم تكن قضية "الديمقراطية" في تلك المرحلة هي شعار هذه "الثورات"، خاصّةً في حقبة "الحرب الباردة"، حيث كان شعار "الديمقراطية" سلاحَ "المعسكر الرأسمالي" ضدّ "المعسكر الإشتراكي" الذي استخدم بدوره شعار "العدل الاجتماعي" ضدّ المعسكر الآخر.

لقد عاشت المنطقة العربية في بداية الخمسينات وحتى منتصف السبعينات من القرن العشرين – رغم الكثير من التعثّر والانتكاس- صحوةً عربية لم تعرف لها في تاريخها الحديث مثيلاً. فمنتصف القرن العشرين جاء حاملاً معه متغيّراتٍ كثيرة في المنطقة العربية، وفي العالم ككلّ. فالخمسينات التي كانت موقعاً زمنياًَ وسطياً للقرن العشرين، كانت أيضاً من خلال قيام "ثورة 23 يوليو" عام 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، بدء انطلاق حركةٍ تحرّر عربية وسطية "لا شرقية ولا غربية"، ترفض الانحياز إلى أحد قطبيْ الصراع في العالم آنذاك، وترفض الواقع الإقليمي المجزّئ للعرب كما ترفض الطروحات القومية الأوروبية العنصرية والفاشية أو أسلوب الضمّ العسكري، وتنطلق من أرض مصر التي هي موقعٌ جغرافيٌّ وسط يربط إفريقيا العربية بآسيا العربية، وتعيش على ترابها أكبر كثافة سكّانية عربية تملك كفاءاتٍ وقدراتٍ بشرية ضخمة، قياساً بسائر الأقطار العربية الأخرى.

حرب السويس عام 1956 ثمّ إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وقبل ذلك إعلان تأسيس حركة عدم الانحياز ورفض سياسة الأحلاف الاستعمارية، كلّها كانت مصادر إشعال لتيّارٍ جديد قاده جمال عبد الناصر من خلال موقع مصر وثقلها القيادي، وحقّق للمرّة الأولى صحوةً نهضويةً عربية تؤكّد ضرورة التحرّر الوطني والاستقلال القومي والانتماء إلى أمَّةٍ عربيةٍ واحدة، وتدعو إلى وحدةٍ وطنية شعبية في كلّ بلد عربي، وإلى استخدام الوسائل السلمية في الدعوة للوحدة العربية، وإلى نهضةٍ عربيةٍ شاملة في الأطر كلّها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لكن هذه "الصحوة العربية" كانت في غالبيتها "حالةً شعبية" أكثر منها "حالة فكرية" أو "تنظيمية". فالشارع العربي كان مع جمال عبد الناصر "القائد"، لكن دون "وسائل سليمة" تؤمّن الاتصال مع هذه القيادة. فأجهزة المخابرات كانت هي "وسائل الاتصال" في معظم الأحيان بدلاً من البناء التنظيمي المؤسساتي السليم للمجتمعات ولهذه الملايين العربية في بلدان المشرق والمغرب معاً ..

ظروفٌ كثيرة تغيّرت منذ منتصف القرن الماضي، لكن موقع مصر الهام في المنطقة لم يتغير ولا تغيّر أيضاً سعي القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية) إلى إضعاف دور مصر وإلى قطع أواصرها العربية والإفريقية والإسلامية (وهي الدوائر الثلاث التي حدّدها جمال عبد الناصر لهويّة مصر ودورها).

إنّ العرب اليوم يستذكرون مصر 23 يوليو، مصر جمال عبد الناصر، مصر الرائدة والقائدة، مصر العروبة والتحرّر والكرامة الوطنية والقومية، وهم كلّهم أمل أن تعود مصر إلى موقعها الطبيعي ودورها الطليعي الإيجابي في الأمَّة العربية وقضاياها العادلة.

هنا أهمّية ما حدث في مصر في "يناير 2011" من "ثورة" شعبية، كانت في مجملها وفي شعاراتها ثورة على الفساد والاستبداد والتبعية للخارج. والأمل كبيرٌ بشباب مصر وطلائعها الوطنية أن تنتقل من "الثورة" الشعبية (في الأسلوب)، إلى "الانقلاب" على ما كانت عليه مصر من واقع قبل "ثورة يناير"، لا على واقع الأوضاع الداخلية المصرية فقط، بل للتصحيح أيضاً لما اعتُمِد من مسارٍ سياسيٍّ خارجيٍّ خاطئ في حقبتيْ السادات – مبارك.

هنا أهمّية أن يحدث الآن التكامل المطلوب بين ما قامت من أجله "ثورة يوليو" وما كانت عليه من نهجٍ تحرّريٍّ عربي، وبين ما هي عليه "ثورة يناير" من أهداف سياسية واجتماعية. مصر بحاجة إلى هذا التكامل بين الثورتين، والأمّة العربية جمعاء بحاجةٍ إليه أيضاً.

إنّ أهمّية ما حدث في "ثورة يناير" هو إحياء الأمل لدى عامّة العرب بإمكان التغيير وبعدم الاستسلام لليأس القاتل لإرادة وأحلام الشعوب بمستقبل أفضل. فجدار الخوف النفسي الذي كان يفصل بين المواطن وحقوقه في الوطن قد تحطّم، وجرى إعادة الاعتبار لدور الناس في عمليات التغيير المطلوبة بالمجتمعات.

في الذكرى ال59 لثورة يوليو، عادت مصر لشعبها، بعد أن استولى عليها لأكثر من ثلاثين عاماً حفنةٌ من الفاسدين والتابعين. وشعب مصر الأبيّ لا يمكن أن يقبل بتقزيم دور وطنه الرائد والطليعي عبر تاريخ المنطقة كلّه.

 

18-7-2011

 

=====================================================================
تغييرٌ عربي لصالح متغيّراتٍ دولية!

 

توجد الآن ثلاثة عناصر تصنع الحاضر العربي: أوّلها وأهمّها، الانتفاضات الشعبية على حال الاهتراء السائد عربياً في الأوضاع السياسية الداخلية، بوجهيها الحاكم والمعارض. وثانيها، التدخّل الأجنبي في شؤون الأوطان العربية. وثالثها، هو غياب المشروع الفكري النهضوي الجاذب لشعوب الأمَّة العربية ولجيلها الجديد الذي كان تائهاً بين السلبية والتطرّف.

فصحيحٌ أنّ هناك خصوصيات يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضاً مشاكل مشتركة بين أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل تنعكس سلباً على الخصوصيات الوطنية ومصائرها. لذلك هي حاجة ماسَّة الآن لمشروع عربي نهضوي مشترك، كما هي الحاجة للمشاريع الوطنية التوحيدية داخل الأوطان نفسها.

إنّ سلبيّات الواقع العربي الراهن لا تتوقّف على سوء الأوضاع العربية الداخلية وعلى المخاطر الناجمة عن المطامع الأجنبية فقط، بل تنسحب أيضاً على كيفيّة رؤية العرب لأنفسهم ولهويّتهم ولأوضاعهم السياسية والاجتماعية، وعلى كيفية علاقاتهم مع القوى الخارجية.

ولعل التّعامل مع سلبيّات الواقع والعمل لإيجاد بدائل إيجابيّة يتطلّب تحديد جملة مفاهيم وبرامج عمل ترتبط بالهويّة والانتماءات المتعدّدة للإنسان العربي، وبدور الدّين في المجتمع، وبالعلاقة الحتمية بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وبالفهم الصّحيح للعروبة وللمواطنة وللعلاقة مع "الآخر"، وأخيراً في التلازم المنشود بين الأهداف الوطنية وأساليب العمل اللاعنفية.

ونجد في السياق العام لتاريخ المنطقة العربية أنّ "الخارج الأجنبي" يتعامل معها كوحدة متكاملة ومتجانسة، في الوقت ذاته الذي يدفع هذا "الخارج" فيه أبناء الداخل العربي إلى التمزّق والتشرذم والارتباط المصلحي معه.

هناك تغيير بلا شكّ سيحدث في المنطقة، لكنّه حتى الآن تغيّر متوقَّع دون حسمٍ للاتجاه الذي يسير فيه.. أي أنّ هذه المتغيّرات العربية تحدث الآن باتجاهات مختلفة، وليس لها مستقرّ واحد يمكن الوصول إليه. فجملة عوامل تتفاعل الآن لإحداث تغييرات داخل المنطقة العربية. بعض هذه العوامل هو نموّ طبيعيّ في مجتمعات الأمَّة، وبعضها الآخر هو مشاريع من الخارج يراهن على حصادٍ خاصّ يتناسب مع مصالحه في داخل المنطقة.

ولم تعد هناك قضية مركزيّة واحدة تشدّ اهتمام العرب جميعاً، كما كان الحال العربي قبل منتصف السبعينات من القرن الماضي، فقد أصبح لكلِّ بلد عربي قضيته الخاصّة التي تشغل شعبه وحكومته، رغم وجود عناوين مشتركة لهذه القضايا؛ مثل: الإصلاح السياسي الداخلي، التخلّف الاجتماعي والركود الاقتصادي، تحدّي الأمن والاستقرار، الحفاظ على الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي المشترك، إضافةً طبعاً إلى إستمرارية وجود مشكلة الاحتلال الإسرائيلي.

ولعلَّ المنطقة العربية الآن في حالٍ شبيهٍ بما كانت عليه دول أوروبا الشرقية، عشيَّة انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية عقد الثمانينات، وما نتج عن هذا الانهيار من ولادة أوضاع جديدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في كلّ دول أوروبا الشرقية. بل من المهمّ أيضاً التوقّف عند ظواهر تفتّت بعض الكيانات الأوروبية بحكم الصراع المسلّح، كما حدث في يوغوسلافيا، أو الانفصال الديمقراطي السلمي، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا التي انقسمت إلى دولتين.

لكن هذه التغييرات التي حدثت في أوروبا الشرقية كانت تتمّ أيضاً بتحريض (أو توظيف أحياناً) من قبل الإدارة الأميركية، التي ركَّزت، بالثمانينات في فترتي حكم رونالد ريغان، على محاربة الشيوعية وعلى إثارة عناوين الدين والقوميات والديمقراطية في دول المعسكر الشيوعي، إضافةً لتأثيرات وجود "حلف الأطلسي" عسكرياً وسياسياً على الأراضي الأوروبية.

طبعاً، لم تختر إدارة ريغان في تلك الحقبة الزمنية كلّ الاتجاهات التي سارت عليها دول أوروبا الشرقية بعد تغيير أنظمتها الشيوعية، أي لم تكن واشنطن مثلاً مستفيدةً كثيراً من وحدة ألمانيا، بينما استفادت (واشنطن) من الصراعات في يوغوسلافيا التي أظهرت عجز أوروبا عن حلّها دون الحفاظ على دور "حلف الأطلسي" وعلى الدور القيادي للولايات المتحدة، حتّى في النزاعات الأوروبية الداخلية.

وحينما تحدّث الكثيرون من العرب في حقبة التسعينات عن مخاطر مشروع استبدال "الخطر الشيوعي" على الغرب بنظرية "الخطر الإسلامي" وقاعدته في البلاد العربية، وعن المبشّرين بهذا المشروع في الولايات المتحدة وإسرائيل، غاب عنهم (أي العرب) أنّ ذلك سيعني تكرار ما حدث في أوروبا الشرقية، من تحريكٍ خارجي لعوامل داخلية بهدف إحداث تغييراتٍ نوعيّة في الحكومات وفي المجتمعات.

والجدير ذكره، أنّ معظم قادة "الحملة الريغانية" ضدّ الشيوعية كانوا هم أنفسهم في مواقع مسؤولة في فترتي إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش، وهم الذين قادوا شعار "الحرية" في الإدارة الثانية لبوش، بعد أن كانت "الحرب على الإرهاب القادم من الشرق"، عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، هي شعار الإدارة الأولى.

وكما أوجدت إسرائيل لنفسها دوراً هامّاً بالنسبة للغرب وأميركا في فترة الحرب الباردة ضدَّ الشيوعية، أوجدت إسرائيل أيضاً الأسباب الداعية لاستمرار دعمها أميركياً وغربياً من خلال الحرب على الإرهاب ومواجهة "العدوّ الجديد" في منطقة الشرق الأوسط.

***

أسئلة عديدة معنيّةٌ بها الآن الحركات الشعبية العربية وقادتها، في ظلِّ هذه الانتفاضات الشعبية العربية الحاصلة من أجل الديمقراطية والإصلاح في المنطقة.

وإذا كانت أيّة دولة تعني مزيجاً من الحكم والشعب والأرض وعلاقات الجوار، فإنّ السؤال الهام، الذي سيكون أمام المتغيّرات القادمة في أيٍّ من الدول العربية، هو: كيف الحكم، لأيِّ شعب، على أيِّ أرض، وبدعم من؟!.

إلا أنّه مهما جرى من اختلافٍ على طبيعة الحكم، فإنّ الحسم مطلوبٌ أولاً لوحدة هذا الشعب، ولحرّية هذه الأرض، ولرفض أي هيمنة أجنبية، ولعدم تحطيم مؤسسات الدولة الواحدة.

فهناك علاقة جدلية واضحة في المنطقة العربية بين سوء الحكم في الداخل وبين محاولات الهيمنة من الخارج. كما هي أيضاً العلاقة السببية بين عطب الحكومات وبين تدهور أحوال المجتمعات والحركات السياسية المعارضة فيها. فكلّما غابت البنى السياسية والدستورية والاجتماعية السليمة في المجتمعات، كلّما كان ذلك مبرّراً للتدخّل الأجنبي ولمزيدٍ من الانقسام بين أبناء الوطن الواحد. وتزداد المشاكل الداخلية تأزّماً كلّما ارتهن البعض لإرادة الخارج من أجل ضمان استمراره في الحكم، أو سعياً ربّما لدى البعض الآخر للوصول إلى الحكم، فإذا بها تصبّ لاحقاً بهم، وبالأوطان معاً، في مهبّ المصالح الخارجية حصراً.

إنَّ الخطر الأكبر الذي يواجه العرب حالياً، ومنذ احتلال العراق في العام 2003، هو تساقط الأوطان العربية واحدها بعد الآخر، وانشغال شعوب المنطقة بصراعاتها الداخلية. فمِن رحْم هذه الصراعات تتوالد أزمات سياسية وأمنية عديدة أبرزها الآن ما حدث في السودان وما يظهر من مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، إضافةً إلى التنافس المسلّح على السلطة والحكم.

إنّ الحرّية، قبل أن تُمارَس كعملية دستورية ديمقراطية بين المواطنين، هي حرّية  الأرض وحرّية الوطن وسيادة الشعب على أرضه وقراره الوطني. فكم هو مؤسف ومحزن معاً أن تقترن الدعوة إلى الديمقراطية الآن بسِمات التدخّل الأجنبي من الخارج وبالانقسام الطائفي والإثني من الداخل. فالمشكلة عربياً هي ليست حكراً على كثرة المخطّطات والمشاريع الدولية والإقليمية التي تستهدف البلاد العربية، بل أساس المشكلة هو في واقع الحال العربي الذي نجح وينجح في معارك التحرّر الوطني من الاحتلال الأجنبي، إلا أنّه يفشل في بناء أوطان ومجتمعات صحّية قائمة على أنظمة سياسية سليمة، وعلى حسمٍ لهُويّة الأوطان ولمفهوم المواطنة.

هاهو "الانتداب الأجنبي" الذي خرج من أوطانٍ عربية مركولاً من قِبَل أهل الدار، يعود الآن من نوافذ عديدة في المنزل العربي المصدّع والمهدّد بالانهيار!.

 

11-7-2011

 

 


 

=====================================================================

التدويل والتقسيم يحيطان بمصر..

فما تنتظره قياداتها بعد؟

 

 

سؤال يكرّره العرب اليوم: أين مصر ممّا يحدث الآن في بلاد العرب؟ وهل صحيح أنّ أوضاع مصر الداخلية هي العامل المانع لتحرّكٍ مصريٍّ منشود يوقف تدحرج المنطقة نحو هاوية التدويل أو التقسيم أو الاثنين معاً؟!.

الانتفاضات الشعبية العربية لم تنتظر نضوج الأمور الداخلية في مصر حتى تبدأ حركتها، كذلك هي القوى الإقليمية والدولية والتي سبقت أصلاً هذه الانتفاضات بوضع مشاريع وخطط تضمن مصالحها في المنطقة العربية كيفما كان اتجاه رياح التغيير فيها.

آمال العرب هي على مصر، لأنّ مصر هي القوّة العربية الأساس في كلّ مواجهة خاضتها الأمَّة العربية على مرِّ التاريخ، ولأنّ المنطقة كانت تخضع دائماً لتأثيرات الدور المصري إيجاباً كان أم سلباً. لكن التاريخ يؤكّد أيضاً أنّ أمن مصر هو من أمن العرب وأن استقرارها وتقدّمها مرهونان أيضاً بما يحدث في جوارها العربي.

الآن نجد مصر محاطة بواقع تدويلي/تقسيمي في حدودها الجنوبية مع السودان وفي حدودها الغربية مع ليبيا. وهذا الواقع مرشَّح لمزيدٍ من التدهور والتأثير المباشر على أمن مصر وأوضاعها الداخلية. كذلك هي المخاطر المحدقة في الحدود الشرقية الجنوبية لمصر على باب البحر الأحمر حيث هاجس الحرب الأهلية في اليمن. أمّا على الطرف الشرقي/الشمالي، فمصر مهدّدة أيضاً باحتمالات الفلتان الأمني والسياسي الممكن حدوثه في الشرق العربي نتيجة تفاعلٍ حاصلٍ الآن بين أوضاع داخلية وأشكال مختلفة من التدخّل الإقليمي والدولي السافر في العراق وسوريا ولبنان. هذا كلّه في ظلّ حضور حكومة نتنياهو وما هي عليه من مواقف سياسية ومشاريع تقسيمية للمنطقة، ومن فيها من مسؤولين دعوا أيام حكم حسني مبارك علناً إلى ضرب مصر، فكيف يفكّرون الآن بعد ثورة يناير فيها؟!

ألم تنقل صحيفة "الشروق" المصرية في عددها يوم 4/6/2011 عن الجيش المصري تحذيره من مخطّط لتقسيم مصر إلى ثلاث دويلات! وبأن "القوات المسلحة لديها وثائق تشير الى مؤامرة تحيكها أطراف داخلية وخارجية لتفتيت مصر الى ثلاث دويلات، وطرد الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وتقسيم الدول العربية على غرار ما حدث في السودان"!.

ماذا تنتظر القيادات المصرية للتحرّك عربياً الآن وليس التعامل اليومي فقط مع تداعيات الشأن الداخلي المصري؟!

فلا صحّة إطلاقاً للمنطق الذي يقول أنّ القوات المسلحة المصرية مشغولة في أمور داخلية ولا تقدر على التحرّك في جبهات أخرى. فهناك فرقة عسكرية مصرية واحدة معنيّة بهذا الوضع الداخلي بينما الجيش المصري هو من الجيوش العشرة الأولى في العالم ويصل حجم القوات البرية فيه إلى حوالي نصف مليون جندي إضافةً إلى مليون من جنود الاحتياط، كما يملك الجيش المصري أكثر من خمسة آلاف دبابة. فجيشٌ بهذا الحجم قادرٌ على التحرّك غرباً وجنوباً وشرقاً، إضافةً إلى دوره الداخلي، لو توفّر القرار السياسي لذلك.

لقد كانت ثورة 23 يوليو في مصر عام 1952 نموذجاً رائداً لحركات التحرّر الوطني في العالم، وللتغيير الاجتماعي والسياسي الذي تأثرت به المنطقة العربية عموماً، وترك آثاراً هامّة على شعوب أفريقيا وأميركا اللاتينية وعلى معظم دول "العالم الثالث" التي كانت تعيش أيضاً ظروفاً مشابهة لأوضاع البلاد العربية.

ولم يحدث هذا الاهتمام العربي والتأثّر الدولي بثورة 23 يوليو بمجرّد قيامها في العام 1952، لكنّه حدث من خلال قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس ومواجهة العدوان الثلاثي: البريطاني، الفرنسي، والإسرائيلي على مصر في العام 1956. فهذه كانت معركة الإرادة الوطنية ضدّ الهيمنة الأجنبية، ومعركة التحرّر من الاستعمار والاحتلال، وتلك آنذاك كانت قضيّة دول "العالم الثالث" كلّه، كما هي الآن "المسألة الديمقراطية".

كذلك كان تجاوب الشعوب العربية مع قيادة ثورة 23 يوليو حينما أطلق قائد الثورة جمال عبد الناصر الدعوات لتضامن الأمّة العربية ولوحدة شعوبها، ولتصحيح واقع فرضه المستعمر لكي تسهل هيمنته على ثروات ومقدّرات الأمّة العربية وعلى موقعها الجغرافي الهام.

فقد أدرك جمال عبد الناصر دور مصر الريادي في التاريخ القديم والحديث، وبأنّ مصر لا يمكن أن تعيش منعزلةً عن محيطها العربي وعمّا يحدث في جناحيْ الأمّة بالمشرق والمغرب، بينما مصر هي في موقع القلب، وبأنّ أمن مصر وتقدّمها يرتبطان بالتطوّرات التي تحدث حولها.

ولو ظهر جمال عبد الناصر في غير مصر لما استطاع أن يكون عظيماً بدوره، ولما كانت تجربته بالقيمة نفسها. فالعنصر الأهم في قيمة تجربة ناصر هو مكانها، أي مصر، وبما هي عليه مصر من موقع جغرافي يربط آسيا بأفريقيا، وشرق العرب بمغربهم، ولِما كان – وما يزال- لهذا الموقع من أهمّية استراتيجية لكلّ من أراد الهيمنة على عموم المنطقة.

وصحيح أن ثورة 23 يوليو عام 1952 كانت "مصرية" المنطلق، كما هي ثورة يناير الآن، لكنّها كانت "عربية" في قضاياها ومعاركها وآثارها السياسية والفكرية والاجتماعية، وهذا بحدّ ذاته كان كافياً لانشداد كلّ العرب إلى ما يحدث في مصر ماضياً وحاضراً. فالاختلال بتوازن مصر وبدورها يعني اختلالاً في توازن الأمّة العربية كلّها، وهذا ما حصل فعلاً بعد زيارة السادات لإسرائيل ثم توقيع معاهدات "كامب ديفيد" في العام 1979.

وحينما ثار شباب مصر لتغيير أوضاع دستورية واجتماعية مصرية، كانوا أيضاً يجسّدون بذلك أملاً كبيراً لكلِّ العرب بتغيير واقعهم أيضاً، واقعهم الداخلي وواقع أمّتهم كلّها.

إنّ أهمّية ما حدث في ثورة يناير المصرية هو إحياء الأمل لدى عامّة العرب بإمكان التغيير وبعدم الاستسلام لليأس القاتل لإرادة وأحلام الشعوب بمستقبل أفضل.

لكن الأمَّة العربية ما زالت تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي وغياب الديمقراطية السياسية، ممّا يسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها ويدفع بالوضع العربي كلّه نحو مزيدٍ من التأزّم والتخلّف والسيطرة الأجنبية.

الأمَّة العربية تحصد الآن نتائج سياسات حكّامٍ فاسدين في ظل اشتعال دور الطائفيين والمذهبيين والمتطرّفين العاملين على تقطيع أوصال كلّ بلد عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية.

وهناك نماذج مختلفة من حركات التغيير السياسي التي تشهدها المنطقة العربية حالياً. إذ أنّ  أمراض جسم النظام العربي الراهن ليست لها وصفة طبية سياسية واحدة. وما نجح في تونس ومصر لن يكون بالضرورة هو حال البلدان العربية الأخرى التي تشهد حالياً انتفاضاتٍ وتحوّلاتٍ سياسية هامّة. وليست الظروف الداخلية فقط هي عناصر الاختلاف بين هذا البلد وذاك، بل تلعب أيضاً المصالح الدولية والإقليمية دوراً هاماً في تقرير مصير بعض البلدان العربية.

إنّ مصر معنيّة الآن بشكلٍ كامل في كلّ ما يحدث بالمنطقة. والأمن القومي المصري والعربي يتطلّب الآن تحرّكاً سريعاً وجادّاً من المجلس العسكري الذي يقود مصر حالياً، فمصر هي الآن بين بلدين عربيين يشهدان مخاطر داخلية كبيرة (السودان وليبيا) وهاهما الآن يتّجهان نحو هاوية التقسيم والتدويل، ممّا يشكّل بالتالي، على الأمن الوطني المصري، مخاطر كبيرة.

طبعاً، المراهنة الأولى والأخيرة يجب أن تكون على شعب كل بلد عربي لإحداث التغيير السليم في الأوطان، ممّا يُحمّل "القوى المعارضة" مسؤوليةً كبيرة في الحرص على هدف وحدة الشعب ووحدة الأرض وعروبة البلد واستقلاليته الوطنية ورفض الانجرار إلى مشاريع الهيمنة الدولية والإقليمية.

وبمقدار ما تألّم العرب سابقاً من وجع سياسات قام بها حكم السادات/مبارك منذ توقيع المعاهدة مع إسرائيل، ومن تهميشٍ ثمَّ لدور مصر العربي، بقدر ما يشدّهم الأمل اليوم بعودة مصر إلى دورها الريادي لصالح مصر وكلّ العرب.

 

4-7-2011

 


 

=====================================================================

مؤامرات أمْ مجرّد حراكٍ شعبي؟

 

 

هناك فرزٌ حاصل الآن بين منظورين سياسيين لما يحدث في المنطقة العربية. المنظور الأول يحصر  الأمر ب"مؤامرة دولية" تستهدف الهيمنة الكاملة على العرب ووضعهم جميعاً تحت "الوصاية الدولية"، بينما يرى الآخر أن لا مؤمرات خارجية، بل هو فقط حراكٌ شعبي عربي مشروع ولا يجوز ربطه بأيّة جهةٍ خارجية.

ثمّة "رأي ثالث" لا يجد له متّسعاً كبيراً في التدوال السياسي والإعلامي، وهو رأي يؤكّد على نزاهة الثورات والانتفاضات الشعبية العربية، وعلى حقّ الشعوب في التحرّك من أجل الحدّ من الاستبداد والفساد، لكن دون إغفالٍ لما يحدث أيضاً من محاولاتٍ إقليمية ودولية لتوظيف هذا الحراك الشعبي وتحريفه وجعله يخدم مخطّطات ومشاريع سبقت بسنوات هذا الحراك العربي.

فواقع الحال العربي الآن يقوم على مزيج من هواجس خوف على أوطان مع بوارق أمل من شعوب. وما يحدث في هذا العام داخل أوطان الأمة العربية من مشرقها إلى مغربها، وفي عمقها الأفريقي، هو دلالةٌ هامّة على نوع وحجم القضايا التي عصفت لعقودٍ طويلة، وما تزال، بالأرض العربية. وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان.

ولعلَّ أهمّ دروس هذه القضايا العربية المتداخلة الآن هو تأكيد المعنى الشامل لمفهوم "الحرّية" حيث أنّ الحرّية هي حرّية الوطن وحرّية المواطن معاً، ولا يجوز القبول بإحداها بديلاً عن الأخرى. كذلك هو التلازم بين الحرّيات السياسية والحرّيات الاجتماعية، فلا فصل بين تأمين "لقمة العيش" وبين حرّية "تذكرة الانتخابات". وكم يتعاظم حجم المأساة حينما تعاني بعض الأوطان من انعدام كل مضامين مفهوم الحرية، أو حين يجتمع لديها وجود حكوماتٍ تفرض "الخوف والجوع" معاً في ظلِّ هيمنةٍ أجنبية وفسادٍ سياسي في المجتمع.

ربّما كانت سمة مشتركة بين عدّة بلدان عربية أن نجحت شعوبها في مقاومة المستعمر والمحتل ثمّ فشلت قياداتها في بناء أوضاع داخلية دستورية سليمة. فمعارك التحرّر الوطني لم تكن مدخلاً لبناء مجتمعات حرّة يتحقّّق فيها العدل السياسي والاجتماعي والمشاركة الشعبية في الحكم وفي صنع القرار. ولذلك السبب، عادت هذه البلدان إلى مشكلة كيفيّة التعامل مع قضية الهيمنة الأجنبية.

كذلك نجد على مستوى الشعوب العربية عموماً حالاتٍ سلبية من الانقسام على أسس طائفية أو قبلية أو أثنية بدلاً من الصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية والطبقية، والتي هي ظواهر صراعات طبيعية في أيِّ مجتمعٍ حيويٍّ موحّد.

أمّا على صعيد الدور الخارجي في الأزمات العربية، فهو حتماً عنصرٌ فاعل في إحداثها أو في توظيفها واستثمارها. وهذا الدور الخارجي يجمع، كما فعل على امتداد العقود الماضية، بين إسرائيل وجهات دولية وإقليمية كبرى، وتدخّلها كلّها حتّى في أصغر القضايا العربية.

لكن هذا التدخّل الإسرائيلي/الأجنبي ما كان ليحدث بهذا الشكل والمضمون لولا حالات الوهن والضعف في الجسم العربي عموماً وداخل الكثير من أوطان العرب.

بل إنّ ذلك كلّه يؤكّد جدّية المشروع الإسرائيلي الساعي لتفتيت ما هو أصلاً مقسّمٌ عربياً، ولإقامة دويلات دينية وأثنية تبرّر وجود "الدولة اليهودية" التي ستتحكّم في مصائر هذه الدويلات وترث "الرجل العربي المريض" كما ورثت اتفاقيةُ (سايكس/البريطاني وبيكو/الفرنسي) مطلع القرن الماضي "الرجلَ التركي المريض".

أمّا المشروع الأميركي للمنطقة فقد كان خلال حقبة بوش و"المحافظين الجدد" يقوم على فرض حروب و"فوضى خلاّقة" و"شرق أوسطي جديد"، وعلى الدعوة لديمقراطيات "فيدرالية" تُقسّم الواطن الواحد ثم تعيد تركيبته على شكل "فيدرالي" يحفظ حال التقسيم والضعف للوطن ويضمن استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواته ومقدّراته وقرارته. وكانت نماذج هذا المشروع في العراق وفي السودان معاً. الآن نجد إدارةً أميركية تعمل على تحقيق المصالح الأميركية من خلال دعوة الحكومات العربية (والضغط عليها) لتحقيق إصلاحات دستورية واقتصادية تضمن أيضاً في هذه البلدان بقاء المصالح الأميركية، إذ لا يهمّ الحاكم الأميركي إلا المصالح الأميركية، فهو قد يكون مع تغيير أشخاص وحكومات في بلدٍ ما ولا يكون كذلك في بلدان أخرى. الأمر يتوقّف طبعاً على "ظروف" هذا البلد ونوع العلاقة الأميركية مع المؤسسات القائمة فيه بما فيها المؤسسة العسكرية، لكن الاعتبار الأميركي الأهم هو "نوع" البدائل الممكنة لهذا النظام أو ذاك.

وما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ ليس عن خطايا حكومات وأنظمة أو عن "تدخل خارجي" فقط، بل هو أيضاً مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويتين العربية والوطنية ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي، أو في مستنقع "الدعم الأجنبي".

إنّ المشترك بين البلاد العربية لم يعد وحدة اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا فحسب، بل أيضاً وحدة الحال من حيث وجود العديد من الحكومات الفاسدة والقمع السياسي والبطالة الواسعة والفقر الاجتماعي وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، وكلّها عناوين لانتفاضات شعبية وراءها عشرات الملايين من المظلومين والفقراء على الأرض العربية. لكن ماذا بعد الانتفاضات، وعلى أساس أيِّ برنامجٍ للتغيير، بل وفق أيِّ أسلوبٍ في التحرّك من أجل التغيير؟

فأسلوب التغيير الداخلي، المنشود في عدّة بلدان عربية، لا يجب أن يخرج عن رفض استخدام العنف المسلّح مهما كانت الأعذار والظروف، وعلى المضطلعين بالتغيير أن يحرصوا أيضاً على استقلالية التحرّك الشعبي عن أيِّ جهةٍ خارجية، وعلى التمييز بين صوابيّة هدف الضغط على النظام وبين خطيئة تحطيم الدولة، فما زال هاجس "التغيير الجغرافي" في البلدان العربية أشدّ حضوراً من أمل "التغيير السياسي".

وقد تستفيد القوى الأجنبية الدولية والإقليمية من تصدّع العرب ومن تداعيات أوضاعهم سياسياً وأمنياً، لكنَّ ذلك سيؤكّد من جديد مخاطر النهج الذي سارت عليه هذه الأمَّة خلال العقود الأربعة الماضية على مستوى معظم حكوماتها وشعوبها وحركاتها السياسية.

وطالما أنَ الانقلابات العسكرية الداخلية من أجل تغيير الحكومات هي الآن صعبة، وهي أسلوبٌ مرفوض حالياً في العالم ككلّ، فأيُّ نظامٍ ديمقراطي يمكن أن يستتبَّ حصيلة فوضى حروبٍ أهلية أو تدخّلٍ عسكريٍّ خارجي؟.

إنَّ الكثير من الحكومات العربية أعطت الأولويّة لاستمرارية الحاكم في الحكم، لا لاستمرارية الوطن نفسه. والكثير من المعارضات العربية أعطت الأولوية للتغيير في الحكم، لا في المجتمعات التي تتوارث فيها الأجيال مفاهيم خاطئة عن النّفس وعن الآخر، بينما الغائب-المطلوب هو طروحات وطنية عروبية ديمقراطية تبني جيلاً عربياً جديداً، واعياً فكرياً، وليس ناشطاً حركياً فقط، وتحوّل طاقاته إلى قوّة تغييرٍ سلمي تُصلح مجتمعها وترتقي به، وتصون وحدة أوطانها، وتردع أيَّ تآمرٍ خارجي.

 

27-6-2011

 


 

=====================================================================

موجودٌ "شارعٌ عربي".. لا "مشروعاً عربياً"

 

 

تشهد الآن الأرض العربية جملة تحوّلاتٍ سياسية شبيهة بما حدث منذ مائة عام تقريباً بعد ما أفرزته الحرب العالمية الأولى من نتائج، والتي كان أهمّها انتهاء الحقبة العثمانية في الشرق العربي وهيمنة الأوروبيين على المنطقة، في ظلّ ما كان يُعرف تاريخياً بمصطلحات بدأت مع تعبير "المسألة الشرقية" وانتهت بتعبير "وراثة الرجل التركي المريض".

وقد حصلت في تلك الفترة مراهناتٌ عربية على دعم الأوروبيين لحقّ العرب المشروع في الاستقلال وفي التوحّد بدولة عربية واحدة. وسُمّيت تلك المرحلة ب"الثورة العربية الكبرى"، وهي ثورة قام بها الشريف حسين حاكم مكة في يونيو عام 1916 ضدّ الدولة العثمانية بدعمٍ من بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى. وقد جاء في موسوعة "ويكيبيديا": "أنّ الشريف حسين أعلن الثورة ضدّ الأتراك باسم العرب جميعا. وكانت مبادئ الثورة العربية قد وُضعت بالاتفاق ما بين الحسين بن علي وقادة الجمعيات العربية في سوريا والعراق في ميثاق قومي عربي غايته استقلال العرب وإنشاء دولة عربية متّحدة قوية، وقد وعدت الحكومة البريطانية العرب من خلال مراسلات حسين مكماهون (1915) بالاعتراف باستقلال العرب مقابل اشتراكهم في الحرب إلى جانب الحلفاء ضدّ الأتراك".

وتُتابع "ويكيبيديا": "تمكّنت الثورة العربية من طرد القوات التركية من الحجاز، ومن مناطق في شرق الأردن، وساعدت المجهود الحربي البريطاني عسكرياً وسياسياً في المشرق العربي. اقترب العرب من إقامة الدولة العربية الموحّدة في الجزيرة والمشرق، إلا أن بريطانيا بدأت تنفّذ مخططاتها في التجزئة والاحتلال والإلحاق، فقسّمت البلاد إلى 3 مناطق عسكرية: جنوبية وتشمل فلسطين تحت الإدارة البريطانية، وشرقية تمتدّ من العقبة جنوباً حتى حلب شمالاً تحت إدارة فيصل، وغربية تضمّ المنطقة الساحلية من سوريا ولبنان؛ من صور جنوباً إلى كليكيا شمالاً تحت الإدارة الفرنسية. وأُتبع ذلك بالغزو العسكري الفرنسي وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين (وشرق الأردن) والعراق، كما فُرض الاحتلال والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان".

***

هكذا كان واقع العرب في مطلع القرن العشرين: هدف مشروع في بناء الدولة العربية الواحدة المستقلة لكن من خلال المراهنة على وعود بريطانية لم تنفّذ طبعاً. بل ما حصل هو تنفيذ بريطاني لوعدٍ أعطاه آرثر بلفور باسم الحكومة البريطانية لليهود بمساعدتهم على إنشاء "وطن قومي يهودي" لهم في فلسطين. وقد استتبع هذا "الوعد" البريطاني آنذاك "اتفاقية فيصل – وايزمان" التي وُقّعت من قبل الأمير فيصل بن الشريف حسين مع حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر باريس للسلام 1919م والتي يعطي بها الأمير فيصل لليهود تسهيلات في إنشاء وطن في فلسطين والإقرار بوعد بلفور.

فما بدأ كثورةٍ عربية مشروعة في أهدافها انتهى إلى ممارسات وظّفتها القوى الأوروبية لصالحها، كما استفادت الحركة الصهيونية منها فنشأت "دولة إسرائيل" ولم تنشأ الدولة العربية الواحدة!.

الآن تعيش المنطقة العربية مرحلة سقوط "النظام العربي الرسمي المريض" في ظلّ تضاعف الاهتمام الدولي بموقع المنطقة وثرواتها، وبوجود تأثير كبير ل"دولة إسرائيل" على أحداثها وعلى القوة الدولية الأعظم في هذه الحقبة الزمنية. هي مرحلةٌ لا يمكن الدفاع فيها عن واقع حال "النظام العربي الرسمي المريض" أو القبول باستمرار هذا الحال، لكن التغيير المنشود ليس مسألة أهداف وشعارات فقط، بل هو أيضاً ممارسات وأساليب وتمييز دقيق في المراحل والأجندات والأولويات والصداقات.

في الوقائع الآن أنّ هناك سعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصاية الأجنبية، التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي. فليبيا أصبحت الآن تحت اشراف مجلس الأمن ووصاية مباشرة من "حلف الناتو"، وقبلها كان السودان وما زال، والمحاولات مستمرة لتدويل أوضاع اليمن وسوريا ولبنان.

يترافق مع "وقائع" التدويل الجارية حالياً، وجود "وقائع" عربية مؤلمة داخل المجتمعات العربية من حيث انتشار وباء الانقسامات الطائفية والمذهبية والأثنية وضعف المناعة في الجسم العربي لمواجهة هذا الوباء. وهنا تأتي أيضاً "وقائع" إسرائيلية عبّر عنها نتنياهو بوضوح في كلمته مؤخراً أمام الكونغرس الأميركي ونال تصفيقاً حادّاً عليها حينما تحدّث عن لاءاته: لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، لا للعودة لحدود 1967، لا لوقف الإستيطان، ولا لتقسيم القدس التي ستبقى العاصمة الأبدية للدولة "اليهودية"، كما أشار نتنياهو إلى الآمال التي تضعها حكومته على حركة الشارع العربي: "الذي لم يعد يتظاهر ضدّ إسرائيل بل ضدّ حكوماته".  

في "الوقائع" الإسرائيلية سعيٌ متواصل منذ عقودٍ من الزمن لدعم وجود "دويلات" طائفية وأثنية في المنطقة العربية. هكذا كان تاريخ إسرائيل مع لبنان والعراق والسودان، وهكذا هو حاضر المعلومات عن عملاء إسرائيل في مصر. ثمّ ما السبب وراء مرور الخبر عن تحذير الجيش المصري من مخطّط تقسيم مصر دون اهتمامٍ عربيٍّ إعلاميٍّ كافٍ؟! فقد ذكرت صحيفة "الشروق" المصرية (يوم 4/6/11) "أنّ القوات المسلحة لديها وثائق تشير إلى مؤامرة تحيكها "أطراف داخلية وخارجية" لتفتيت مصر الى ثلاث دويلات، وطرد الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء، وتقسيم الدول العربية على غرار ما حدث في السودان".

فوجود "دويلات" دينية طائفية في المنطقة هو الذي يحلّ الآن معضلات إسرائيل الداخلية والخارجية. وشعار "يهودية" دولة إسرائيل أو "إسرائيل دولة لليهود" سيكون مقبولاً ليس دولياً فقط بل عربياً أيضاً حينما تكون هناك دويلات سنية وشيعية ودرزية وعلوية ومارونية وقبطية وكردية ونوبية وأمازيغية!

أيضاً، نشوء الدويلات الدينية الجديدة في المنطقة (كما حصل بعد اتفاقية سايكس- بيكو في مطلع القرن الماضي ونشؤ الدول العربية الحديثة) سيدفع هذه الدويلات إلى الصراع مع بعضها البعض وإلى الاستنجاد بالخارج لنصرة دويلة على أخرى وإلى إقامة تحالفات مع إسرائيل نفسها، كما حصل أيضاً خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية.

وحينما تنشأ هذه الدويلات فإنّها ستحتاج إلى زيادة ديمغرافية في عدد التابعين لهذه الطائفة أو ذاك المذهب ممّا سيسّهل حتماً مشروع توطين الفلسطينيين في لبنان وسوريا والعراق وبعض دول الخليج العربي. وفي ذلك حلٌّ لقضية "اللاجئيين الفلسطينيين" تُراهن عليه إسرائيل أيضاً.

وفي حقبة "الصراعات الدموية" التي ستسبق قيام الدويلات الدينية ستواصل إسرائيل بناء المستوطنات في القدس والضفة وستزيد من درجة الضغوط على فلسطينييّ 1948 لتهجير ما أمكن منهم إلى دويلات تحتاجهم عدّةً وعدداً، بل ربّما يكون ذاك الوقت المناسب لجعل الأردن "الوطن الفلسطيني البديل" مع أجزاء من الضفة الغربية.

هذه ليست "تخيّلاتٍ وأحلاماً ومشاريع"، بل هي "وقائع" إسرائيلية قائمة على الأرض في ظلّ حكومة يقوم برنامجها على ما سبق ذكره من أجندة فكرٍ وعمل.

طبعاً ليست الخطط والمشاريع الإسرائيلية والأجنبية بمثابّة "قضاء وقدر"، فقد كان هناك في العقود الماضية مشاريع كثيرة جرى في أكثر من مكان وزمان إحباطها ومقاومتها، لكن ما يحدث الآن يختلف في ظروفه عن المرحلة الماضية. فالحديث عن "مقاومة إسرائيل" و"مواجهة الهيمنة الأجنبية" ليس هو الأولويّة الآن لدى جماعاتٍ كثيرة على امتداد الأرض العربية، بل بعض هذه الجماعات لا يجد حرجاً في طلب التدخّل الأجنبي. وربّما المشكلة الأكبر حالياً هي في وجود "مشاريع" أمريكية وأوروبية وإسرائيلية وتركية وإيرانية للتعامل مع متغيّرات المنطقة العربية ولتوظيف حركة "الشارع العربي" لصالح أجندات غير عربية، لكن في ظلّ غيابٍ تام لأي "مشروع عربي" يُحافظ على وحدة أوطان هذه الأمَّة وعلى مصالحها، ويحفظ استقلال إرادتها وقرارها. بل المؤسف أكثر من ذلك أن ليس هناك أيضاً "مشروع وطني توحيدي" في الأوطان العربية التي انتصرت فيها الثورات، فكيف بتلك التي ما زالت تنتفض وتنتظر؟!

عسى أن يدرك الحكّام العرب والمواطنون العرب عموماً إلى أيِّ منقلبٍ قد ينقلبون وهم يحكمون أو يثورون.!

21-6-2011

 

=====================================================================
ثلاثيات نحتاجها عربيّاَ

 

الحكمة والمعرفة والمعلومات

قرأت قولاً منذ فترة للشاعر والأديب الإنجليزي توماس إليوت يتحدّث فيه عن كيف طغت "المعرفة" أولاً على مسألة "الحكمة"، التي كانت سمة هامة تتّصف بها ندرة من الناس قبل عصر انتشار المعرفة التي رافقت الثورة الصناعية في أوروبا، ثم طغيان "المعلومات" مؤخّراً على المعرفة ذاتها. وقد نبّهني هذا القول للشاعر إليوت، الذي توفّي في العام 1965، إلى ما هو عليه عالم اليوم من هيمنة كاملة للمصادر المعلوماتية على عقول الناس ومشاعرهم ومواقفهم. ولنتخيل ما كان يمكن أن يقوله إليوت لو أنّه عاصر الآن حقبة الإنترنت والفضائيات والرسائل الإخبارية الهاتفية. فالناس في زمننا الحالي نادراً ما يتعمّقون في معرفة الأمور ويكتفون بالمعلومات السريعة عنها بل أصبحت عقول معظمهم تعتمد الآن على البرامج الإلكترونية، حتى في العمليات الحسابية البسيطة، وأصبحت آليات هذه البرامج هي صلات التواصل بين البشر بدلاً من التفاعل الشخصي المباشر، وكذلك ربّما في المنزل نفسه أو بمكان العمل المشترك.

كان ذلك في الطب مثلاً حيث كانت "الحكمة" هي الأساس في معرفة الأمراض ومعالجتها فكان "الطبيب" هو "الحكيم"، ثم تطوّر العلم وأصبح الطب "معرفة" يتلقّاها الدارسون في هذا الحقل، وإذا بالطب الآن "حقل اختصاص محدّد" يقوم على "معلومات" خاصة بجزء صغير من جسم الإنسان، لا على معرفة عامة بكل الجسم وتفاعلاته المشتركة. وهكذا هو الحال تقريباً في عموم العلوم الآن حيث "الاختصاص" يعني مزيداً من "المعلوماتية" وقلّةً من "المعرفة" العامة، وربما انعداماً ل"الحكمة" التي هي نعمة من الخالق اختصّ بها بعض البشر.

كانت العصور القديمة تتميّز بوجود مجالس "الحكماء" الذين يشيرون على الحاكم بما هو الأفضل من الخيارات قبل اتخاذ القرارات. الآن، أصبحت أجهزة المخابرات المعتمدة على "المعلومات" هي مصدر "إلهام" الحكام عموماً، وغالباً في ظلّ غياب "الحكمة" عند صُنّاع القرار.

ما يصنع "رأي" الناس في هذا العصر هو "المعلومات" وليس "المعرفة"، وهذا ما أدركه الذين يصلون للحكم أو يسعون إليه، كما أدركته أيضاً القوى التي تريد الهيمنة على شعوبٍ أخرى أو التحكّم في مسار أحداثها. فيكفي أن تتحكّم الآن في وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت كي تصنع "رأياً عاماً" مبنيّاً على ما تغذّيه من "معلومات" قد لا يكون بعضها صحيحاً لكن يكفي أنّه "معلومة" تتناقلها رسائل الإنترنت أو أثير الفضائيات كي تصبح "حقيقة" تُبنى على أساسها المواقف!.

هنا أهمّية "المعرفة" التي يضعف دروها يوماً بعد يوم، وهنا أهمّية "الحكمة" المغيَّبة إلى حدٍّ كبير. فبوجود "المعرفة" و"الحكمة" تخضع "المعلومات" لمصفاة العقل المدرِك لغايات "المعلومات" ولأهداف أصحابها ولكيفيّة التعامل معها.

"المعلومات" قد تجعل الظالم مظلوماً والعكس صحيح، وقد تُحوّل الصديق عدواً والعكس صحيح أيضاً. لكن "المعرفة" و"الحكمة" لا تسمحان بذلك.

كم حريٌّ بنا نحن العرب في هذه المرحلة أن نستحضر "الحكمة" و"المعرفة" في ظلّ طوفان "المعلومات" الذي يجرف أرض العرب و"فضاءهم" و"يُبرمج" أحداثهم وقضاياهم!.

 

الوطنية والعروبة والدين

ثلاثيةٌ متلازمة تقوم عليها منذ أكثر من قرن الحياة العربية، هي ثلاثية "الوطنية والعروبة والدين" (والترتيب يقتضيه السياق، لا الأهمية). فمنذ مطلع القرن الماضي، وعقب سقوط الدولة العثمانية، رسم البريطانيون والفرنسيون خريطةً جديدة للمنطقة العربية قامت في محصّلتها دول وحكومات، ثم تبلور هذا الواقع مع النصف الثاني من القرن العشرين بصورة أوطان لها خصوصياتها الكاملة، يعيش العرب فيها وينتمون إليها كهويّة قانونية.

لم يكن القصد البريطاني والفرنسي من رسم الحدود بين أجزاء الأرض العربية مجرّد توزيع غنائم بين الإمبراطوريتين الأوروبيتين آنذاك، بدلالة أنّ البلدان العربية التي خضعت لهيمنة أيٍّ منهما تعرّضت هي نفسها للتجزئة، لكن كان الهدف الأول من ذلك هو إحلال هويّات وطنية محلية بديلاً عن الهويّة العربية المشتركة، وإضعافاً لكلّ جزء بافتعال انقسامه عن الجزء العربي الآخر.

ورافقت هذه الحقبة الزمنية من النصف الأول من القرن العشرين، محاولات فرض التغريب الثقافي بأشكال مختلفة على عموم البلدان العربية، والسعي لزرع التناقضات بين الهويّات الوطنية المستحدثة وبين الهويّات الأصيلة فيها كالعروبة الثقافية والإسلام الحضاري، ثم أيضاً بين العروبة والدين في أطر الصراعات الفكرية والسياسية.

ثمّ تميّزت الحقبة الزمنية اللاحقة، أي النصف الثاني من القرن العشرين، بطروحات فكرية وبحركات سياسية تغذّي أحياناً المفاهيم الخاطئة عن الوطنية والعروبة والدين، أو لا تجد في فكرها الآحادي الجانب أيَّ متّسعٍ للهويّات الأخرى التي تقوم عليها الأمَّة العربية. ففي هذه الأمّة الآن مزيجٌ مركّب من هويّات قانونية (الوطنية) وثقافية (العروبة) وحضارية (الدين). وهذا واقع حال ملزم لكل أبناء البلدان العربية حتى لو رفضوا فكرياً الانتماء لكلّ هذه الهويات أو بعضها.

لعلّ العرب هم أحوج ما يكونون اليوم لاستيعاب هذا المزيج من ثلاثية الهويّة. فالبلدان العربية جميعها تعيش الآن مخاطر التهديد لوحدتها الوطنية كمحصّلة للمفاهيم والممارسات الخاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من البلدان العربية وما يزال من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية وارتباط مؤسساتها بحزب أو بعائلة ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.

إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لكلٍّ من "ثلاثيات الهوية" في المنطقة العربية (الوطنية والعروبة والدين) يتطلّب نبذاً لأسلوب العنف بين أبناء المجتمع الواحد، مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توفّر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي.

 

الديمقراطية والتحرّر والهويّة

هذه ثلاثية تفرض نفسها الآن أيضاً على الساحة العربية: الديمقراطية، التحرّر من الاحتلال، ومسألة الهويّة.

فالمشكلة هي في الانفصام الحاصل عربياً ما بين هذه الشعارات، نظرياً وتطبيقياً، كذلك في الجهات الخارجية المهيمنة حالياً على مصائر عددٍ من البلاد العربية.

فالدول الغربية تؤكّد على "المسألة الديمقراطية" في البلاد العربية بينما مارس بعضها، وما يزال، الاحتلال في هذه المنطقة واستمرار دعم سياسة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية.

بعض دول الغرب وقفت في السابق مثلاً مع عملية "الديمقراطية" في العراق وفلسطين ولبنان، لكنّها عادت القائمين على عمليات المقاومة ضدَّ الاحتلال في هذه البلدان. فهي وقفةٌ "غربيّة" مع الحرّيات السياسية والاجتماعية لكنّها ضدّ حرّية الأوطان!

كذلك الأمر في مسألة الهويّة العربية لهذه الأوطان، حيث يأتي طرح الديمقراطية منعزلاً عن الهويّة العربية بل متواجهاً معها أحياناً سعياً لاستبدالها ب"هويّات" طائفية أو إثنية ممّا لا يُضعف الهويّة العربية وحدها بل كذلك الهوية الوطنية الواحدة. وحينما تتحدّث دول الغرب عن مجموعة بلدان المنطقة العربية، فإنّ التسمية تصبح "الشرق الأوسط" وتكون إسرائيل حتماً أحد الأطراف المعنيّة، ويكون الهدف دائماً التشجيع على التخلّي عن الهويّة العربية و"التطبيع" الكامل مع إسرائيل!.

أي، تصبح الطائفية والمذهبية بديل الهوية العربية على المستوى الوطني الداخلي، وتكون "الشرق أوسطية" هي البديل على المستوى الخارجي وعلاقات دول المنطقة مع بعضها البعض!!

إنّ الديمقراطية السليمة والإصلاح الشامل مطلوبان فعلاً في دول المنطقة، بل في أنحاء العالم كلّه، والحاجة ماسّة لهما كذلك في مجال العلاقات بين الدول، وفي ضرورة احترام خيارات الشعوب لصيغ الحياة الدستورية فيها، وفي عدم تدخّل أيّة دولة (كبرى أو صغرى) في شؤون الدول الأخرى.

إنّ الديمقراطية هي وجهٌ من وجهيْ الحرّية، وهي صيغة حكم مطلوبة في التعامل بين أبناء البلد الواحد، لكنّها ليست بديلةً عن وجه الحرّية الآخر، أي حرّية الوطن وأرضه.

 

13-6-2011

=====================================================================


 

"ثوابت" إسرائيلية في عصر "المتغيّرات" العربية

 

 

العرب جميعهم الآن بانتظار ما ستسفر عنه هذه المرحلة من متغيّرات سياسية بالمنطقة، وليس في الحكومات والأشخاص فحسب، لكن حتماً القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ليست جالسةً مكتوفة الأيدي ومكتفيةً بحال الانتظار. هي تعمل بدون شك على تهيئة نفسها لنتائج هذه المتغيّرات، بل هي تحاول الآن استثمارها أو حرفها أو محاصرتها أو التحرّك المضاد لها.. وهي كلّها احتمالات قائمة مرتبطة بمكان هذه المتغيّرات وظروفها.

فإذا كانت الثورات والانتفاضات العربية حالياً ظواهر مشرقة واعدة بغدٍ أفضل يضع حدّاً لأنظمة الفساد والاستبداد، فإنّ النور الساطع لهذه "المتغيّرات" الحاصلة لا ينبغي أن يحجب ما يستمرّ "ثابتاً" في المنطقة من خطر الاحتلال الإسرائيلي، بل والتدخّل الإسرائيلي غير المباشر في تداعيات أحداث المنطقة، إضافةً إلى محاولات تكريس الهيمنة الأجنبية على عدّة بلدان عربية، وفي ظلّ أجواء طائفية ومذهبية تنخر الجسم العربي وتهدّد وحدة أوطانه، وتُسهّل السيطرة الخارجية عليه.

فالأمّة العربية كانت تعيش قبل الانتفاضات الشعبية كابوس خطر التقسيم على أسس إثنية وطائفية ومذهبية. وكانت الأمّة تخشى على نفسها من نفسها أكثر ممّا يجب أن تخشاه من المحتلّين لبعض أرضها أو الساعين إلى السيطرة الكاملة على ثرواتها ومقدّراتها.

ومن المهمّ عربياً في هذه المرحلة عدم الفصل بين الحاجة لتغييرات وإصلاحات داخلية في بعض الأوطان وبين مسؤوليات ما تفرضه التحدّيات الخارجية على عموم بلدان المنطقة.

ولا يخطئنَّ أحدٌ بأنّ الشعوب العربية، التوّاقة الآن للديمقراطية، ستتساهل مع الهيمنة الأجنبية على أوطانها من جديد. فهذه الشعوب أدركت بوعيها الفطري الصادق أن لا فصل ولا انفصال بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وبأنّ الاستبداد الداخلي يخدم الهيمنة الخارجية، والعكس صحيح.

إنّ شعوب البلاد العربية تفتح عيناً الآن على حكومات الفساد والاستبداد، لكنّها لن تُغمض الأخرى عن محاولات السيطرة الأجنبية على الثروات الوطنية العربية. وهذه الشعوب، التي تشغلها حالياً قضاياها الداخلية الوطنية، لن تسمح أيضاً باستباحة أراضٍ عربية أخرى ولن تتهاون في مواجهة مستعمرٍ جديد أياً يكن.

لكن يبقى القلق مشروعاً على مقدار التنبّه لمحاولات الفتن الداخلية، والتنبّه أيضاً ممّن يريدون أولوية المكاسب السياسية الفئوية. فهناك في الحالتين أشخاصٌ جاهزون لخدمة أجندات أجنبية وإسرائيلية تبحث لها عن عملاء ووكلاء.

إنّ تحميل "نظرية المؤامرة" وحدها مسؤولية المصائب والمخاوف هي حتماً مقولة خاطئة ومُضلّلة، فكلّ ما يحدث من "مؤامرات خارجية" يقوم فعلاً على استغلال وتوظيف خطايا داخلية، لكنّه أيضاً "قصر نظر" كبير لدى من يستبعد دور ومصالح "الخارج" في منطقةٍ تشهد الآن أهمّ التحوّلات السياسية والأمنية والجغرافية.

هناك في سيرة آدم عليه السلام، كما وردت في الرسالات السماوية، حكمةٌ هامّة. فإغواء الشيطان له ولحوّاء كان "مؤامرة خارجية"، لكنّ ذلك لم يشفع لهما بألا يكون عقابٌ وتحمّل مسؤولية.

الواقع الآن أنّنا نعيش زمناً إسرائيلياً في كثيرٍ من الساحات العربية والدولية. زمنٌ يجب الحديث فيه عن مأساة الملايين من الفلسطينيين المشرّدين منذ عقود في أنحاء العالم، لا عن مستوطنين يهود يحتلّون ويغتصبون الأرض والزرع والمنازل دون رادعٍ محلّي أو خارجي. زمنٌ إسرائيليٌّ حتى داخل بلدان عربية كثيرة تشهد صراعات وخلافات طائفية ومذهبية تخدم المشاريع الأجنبية والإسرائيلية في الوقت الذي تحتّم فيه مواجهة هذه المشاريع أقصى درجات الوحدة الوطنية. زمنٌ تفرض فيه إسرائيل بحث مسألة "الهوية اليهودية" لدولتها التي لم تعلن عن حدودها الرسمية بعد، بينما تضيع "الهوية العربية" لأمَّةٍ تفصل بين أوطانها، منذ حوالي قرنٍ من الزمن، حدودٌ مرسومة أجنبياً، وبعض هذه الأوطان مُهدّدٌ الآن بمزيدٍ من التقسيم والشرذمة!!.

يُغرِق البعض الأمَّة في خلافاتٍ ورواياتٍ وأحاديث عمرها أكثر من 14 قرناً، وليس الهدف من ذلك إعادة نهضة الأمَّة وأوطانها، بل تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، فتكون "الدولة اليهودية" نموذجاً رائداً لدويلات دينية ومذهبية منشودة في المنطقة كلّها!.

وإذا كانت إسرائيل وأجهزتها الأمنية تتسلّل إلى أهمّ المواقع السياسية والأمنية في دول كبرى ومنها حليفتها الكبرى أميركا، فكيف لا تفعل ذلك مع أعدائها "الجيران" لها؟ فرغم كلّ العلاقات الخاصّة يين أميركا وإسرائيل، ترفض واشنطن الإفراج عن جيمس بولارد الأميركي اليهودي، الذي يقضي منذ مطلع التسعينات عقوبة السجن بتهمة التجسّس لإسرائيل، وقد انضمّ إليه لاحقاً عملاء جدد كانوا يعملون لصالح إسرائيل في مواقع أمنية أميركية، ومن خلال علاقتهم مع منظمة "الإيباك"، اللوبي الإسرائيلي المعروف بواشنطن.

ثمّ ماذا عن الدكتور ماركس وولف الذي كان مسؤولاً عن جهاز الاستخبارات العسكرية في ألمانيا الشرقية الشيوعية (قبل سقوط الإتحاد السوفييتي) وقد لجأ إلى إسرائيل بعد سقوط حائط برلين وانهيار النظام الشيوعي فيها حيث تبين أنه كان عميلاً للموساد الإسرائيلية، وهو الذي كان يشرف على العلاقات الخاصّة مع منظمات وأحزاب في دول العالم الثالث ومنها المنطقة العربية؟!

وهل كان باستطاعة إسرائيل أن تغتال خليل الوزير في تونس وكمال ناصر وكمال عدوان في بيروت وغيرهم من القيادات الفلسطينية في أماكن أخرى لو لم يكن لديها العديد من العملاء والمرشدين في هذه الدول؟

من السذاجة طبعاً تجاهل كلّ ذلك واعتبار أنّ إسرائيل هي طرف محايد ومراقب لما يحدث في "جوارها العربي" المعادي لها.

إنّ إسرائيل، بلا شكّ، أحسنت توظيف الأخطاء الرسمية العربية، كما أحسنت توظيف الظروف الدولية والمشاريع الأميركية في المنطقة، لكن لإسرائيل مشاريعها الخاصّة التي تتجاوز أجندة واشنطن أو باريس أو غيرهما من قوى إقليمية ودولية، فإسرائيل لم ولن تتراجع عن مشروعها التفكيكي للبلاد العربية على أسس طائفية ومذهبية وإثنية.

ولا شكَّ أيضاً، أنَّ انتصار المقاومة اللبنانية في إجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن لبنان في مايو/أيار 2000، أوجد أيضاً خياراً من نوعٍ آخر لأسلوب التفاوض العقيم الذي تصرّ عليه إسرائيل والذي يُمارس منذ عقدين، هذا الخيار الذي حرَّك نبض الشارع العربي عموماً، والفلسطينيين في الأراضي المحتلّة خصوصاً.

إنّ إدارة أوباما لا تصنع الآن ثورات المنطقة، فهذه ثورات وطنية ذات إرادة حرّة، لكن الإدارة الأمريكية تحاول استثمار ما يحدث، كما تحاول ذلك أيضاً أطراف دولية وإقليمية عديدة، من أجل تحقيق مصالحها في منطقة إستراتيجية الموقع، غنية الثروات. منطقةٌ هي الآن محور الاهتمام الدولي وفيها الوجود الإسرائيلي وامتدادات نفوذه وتأثيراته الدولية حتّى على صُنّاع القرار في "البيت الأبيض". لكن كما كان التأثير الإسرائيلي كبيراً في مواقف إدارة بوش تجاه العراق والسودان ولبنان وسوريا وفلسطين وإيران، تأمل إسرائيل التأثير أيضاً على الإدارة الحالية من أجل تحويل الثورات الشعبية العربية إلى مناطق حروب أهلية، وإلى دفع المنطقة كلّها لحالٍ من التقسيم والتدويل، إنْ أمكنها ذلك. لكن الكلمة الأخيرة هي للعرب أنفسهم وعليهم ستتوقف مصائر أوطانهم.

7-6-2011

=====================================================================
إسرائيل خسرت نظاماً

 لكن تتطلّع إلى ربح كيانات!

 

 

لقد دفع أنور السادات بمصر في أواخر السبعينات إلى "سلامٍ" منفرد مع إسرائيل ما كان يجب أن يقوم به، وأدّى بذلك إلى اختلالٍ وتدهور في الوضع العربي عموماً.. كذلك دفع صدام حسين بالعراق في الثمانينات ومطلع التسعينات إلى حروبٍ ما كان يجب أن تحصل، وما كان ممكناً له أن يقوم بها لولا الاختلال الذي حصل في الجسم العربي نتيجة سياسة أنور السادات وغياب دور مصر الفاعل.

أيضاً، لولا هذه السياسات الخاطئة في "السلم" و"الحرب" من قبل قيادتيْ مصر والعراق آنذاك لما حصل ما حصل من تمزّق عربي خطير، وهدر وتدمير لإمكانات عربية كثيرة، وإعادة فتح أبواب المنطقة للتدخّل والوجود العسكري الأجنبي، خاصّةً بعد غزو الكويت وحرب الخليج الثانية.. ممّا سبب لاحقاً بتراجعات على مستوى القضية الفلسطينية ظهرت جلياً في اتفاق أوسلو، الذي نقل القضية الفلسطينية من قضية عربية إلى شأن خاص بقيادة منظمة التحرير - وليس حتى بالشعب الفلسطيني كلّه - فانعزلت القضية الفلسطينية عن محيطها العربي، وضعف وضع المقاومة المسلّحة المشروعة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.

فقد تساقطت جميع الأولويّات والإستراتجية التي بناها جمال عبد الناصر ردّاً على هزيمة عام 1967، والتي أدّت إلى حرب تشرين/أكتوبر المجيدة عام 1973، فإذا بالأرض العربية بعد غياب دور مصر عبد الناصر تتشقّق لتخرج من بين أوحالها مظاهر التفتّت الداخلي، وكذلك الصراعات المحليّة المسلّحة بأسماء دينيّة أو طائفيّة أو أثنية، وتبدأ في حقبة منتصف السبعينات من القرن الماضي ظاهرة التآكل العربي الداخلي كبدايةٍ لازمة لمطلب السيطرة الخارجية والصهيونية.

كان جمال عبد الناصر يردّد بعد العام 1967 أنّ "مصر هي مع كل تغيير داخلي عربي يضيف للمعركة مع العدوّ الإسرائيلي ولا يأخذ من هذه المعركة". وكان ذلك معياره حينما رفض تأييد ما حدث من محاولة تغيير خلال العام 1969 في إحدى دول الجزيرة العربية، فإذا بالتغيير يحدث لاحقاً في مصر بعد وفاة ناصر ليأخذ هذا التغيير مصر كلياً من معركة الصراع مع إسرائيل!.

لكن رغم كلّ سلبيات الواقع العربي آنذاك، واللبناني تحديداً في ظلِّ حربٍ أهلية مدمّرة، نمت ظاهرة المقاومة اللبنانية وتصاعدت على مدار عشرين عاماً تقريباً ثم حقّقت الانتصار في العام 2000 على العدوّ الإسرائيلي بإجباره على الانسحاب من معظم الأراضي اللبنانية المحتلّة.

كذلك استمرّت الإرادة الشعبية الفلسطينية الرافضة للاحتلال، والتي حاولت تجاوز كل سلبيات الواقع الفلسطيني من خلال الصمود والاستمرار في نهج مقاومة رغم الاغتيالات والحصار والدمار.

وقد رافق هذه المسيرة الرسمية العربية الانحدارية قمع العديد من الأنظمة العربية لحركات المعارضة السياسية بشكل عام، وانعدام البناء الدستوري السليم الذي يكفل التحوّل السياسي والاجتماعي السلمي في كلّ بلد، في ظلِّ فشل قوى المعارضة العربية في بناء نموذج سياسي صالح ليكون بديلاً أفضل من الواقع الرسمي، وفي مناخات تشجّع على العنف المسلّح للتغيير الداخلي وعلى فرزٍ وانقسامات داخل المجتمع الواحد.

كذلك تراجع دور الجامعة العربية وأنواع العمل العربي المشترك، ووقعت الحكومات العربية كلّها في مأزق "عملية السلام" مع إسرائيل: عجزٌ عن الحرب معها.. وتعجيزٌ إسرائيلي في شروط السلام!

هكذا كان حال المنطقة العربية مع إسرائيل قبل بداية هذا العام وما حصل ويحصل فيه من ثورات وانتفاضات شعبية عربية أثمر بعضها تغييراً مهمّاً وإيجابياً في مصر وتونس. وقد اعتبرت إسرائيل أنّها خسرت "كنزاً إستراتيجياً مهمّاً" بسقوط نظام حسني مبارك، بينما تحدّث نتنياهو لاحقاً بإيجابية عن متغيّرات أخرى متوقّعة في المنطقة العربية.

نعم هناك ضرورة قصوى للإصلاح والتغيير في عموم المنطقة العربية ولوقف حال الاستبداد والفساد السائد فيها، لكن السؤال هو كيف، وما ضمانات البديل الأفضل، وما هي مواصفاته وهويّته؟! فليس المطلوب أن نكسب الآليات الديمقراطية في الحكم بينما نخسر وحدة الأوطان أو نخضعها من جديد للهيمنة الأجنبية، إذ لا يمكن الفصل في المنطقة العربية بين هدف الديمقراطية وبين مسائل الوحدة الوطنية والتحرّر الوطني والهويّة العربية؟ فهل نسي البعض ما قامت به إدارة بوش بعد غزوها للعراق من ترويج لمقولةٍ ديمقراطية تقوم على القبول بالاحتلال والهيمنة الأجنبية ونزع الهوية العربية وتوزيع الأوطان إلى كانتونات فيدرالية؟ ألم يكن ذلك واضحاً في نتائج حكم بول بريمر للعراق وما أفرزه الاحتلال الأميركي للعراق من واقع سياسي تسوده الانقسامات الطائفية والأثنية بل والجغرافية للوطن العراقي؟! ألم تكن هذه أيضا مراهنات إدارة بوش وإسرائيل من حربيهما على لبنان وغزّة بعدما فشلت "الانتخابات الديمقراطية" فيهما بإيصال من راهنت عليهم واشنطن وتل أبيب؟

الآن هناك قوى لبنانية تدعو إلى ضمان الهدوء على الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل وترفض أي توتّر هناك بينما يعمل بعض هذه القوى على توتير الحدود الشمالية مع سوريا بحجّة مساندة الحراك الشعبي السوري.

وهناك قوى سياسية سورية تدين المقاومة اللبنانية وترفع شعارات ضدّها بينما تحتفل هذه المقاومة بالذكرى 11 لتحريرها لبنان من الاحتلال الإسرائيلي.. وبينما يتحدّث نتنياهو في الكونغرس الأميركي عن أمله الكبير ببعض الثورات العربية "التي لم تعد تتظاهر ضدّ إسرائيل بل ضدّ حكوماتها فقط".

الآن تعتزم الولايات المتحدة أن تطلب من الوكالة الدولية للطاقة الذرية رفع مسألة نشاطات سوريا النووية المفترضة إلى مجلس الأمن الدولي، بعدما فشلت محاولات تدويل الوضع الداخلي في سوريا كما جرى في المسألة الليبية. وطبعاً، في ظلّ رفض إسرائيل والإدارة الأميركية للتصويت على إعلان الدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

إنّ الخوف الإسرائيلي الآن هو من خروج مصر تدريجياً من التزامات المعاهدة المصرية/الإسرائيلية بعدما فشلت إسرائيل في كسر إرادة المقاومتين اللبنانية والفلسطينية المدعومتين من سوريا. وهاهي مصر الثورة تنجح في تحقيق المصالحة الفلسطينية وتعيد فتح معبر رفح مع غزّة. لكن المراهنة الإسرائيلية هي على تعويض خسارة نظام مبارك من خلال محاصرة مصر بأزمات عربية تخضع الآن لحالٍ من التدويل والتقسيم وبتحويل ما يحصل فيها من انتفاضات شعبية إلى حروب أهلية داخلية. فالسودان على جنوب مصر يشهد حال التقسيم والتدويل معاً، وكذلك هو الواقع الليبي الآن على غرب مصر بينما اليمن باب البحر الأحمر مهدّد بحرب أهلية. أمّا "الجبهة الشرقية" لمصر فهي أرض وساحة التدخّل والحروب الإسرائيلية طيلة العقود الماضية التي استتبعت المعاهدة المصرية مع إسرائيل. فمنذ اجتياح إسرائيل للبنان عام 1978 ثمّ احتلال عاصمته في العام 1982 وصولاً إلى الحرب على غزّة في نهاية العام 2008، وإسرائيل تقود حروباً مدمّرة من أجل دفع سوريا ولبنان والمقاومة الفلسطينية إلى ما توصلّت إليه من معاهدات مع مصر السادات ومع الأردن. والغايات الإسرائيلية كانت، وما تزال، تعتمد على إثارة حروب أهلية لدى (وبين) الأطراف الفلسطينية واللبنانية والسورية.

        إنّ إسرائيل تراهن هذا العام (كما قال نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي) على متغيّرات عربية لصالحها،  تراهن على "دويلات" عربية جديدة من داخل "الأمَّة العربية" المنقسمة.. لا على إعلان دولة فلسطينية من على منبر "الأمم المتحدة". 

 

30-5-2011

=====================================================================
العرب.. إلى أيِّ منقلب؟

 

خبِرَت الأمَّة العربية، وجرّب العرب، في العقود الأربعة الماضية كلَّ البدائل الممكنة عن نهج وتيار العروبة الذي ساد في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي. فقد كانت زيارة أنور السادات لإسرائيل في العام 1977 بداية الانقلاب الفعلي على نهج العروبة في مصر وعموم المنطقة العربية. وشهدت مصر بعد ذلك سياسة الانعزال عن العرب، والتطبيع مع إسرائيل بدعمٍ كبير من الدول الغربية. وقد جرى السير على هذا النهج الانعزالي إلى حين ثورة 25 يناير التي فتحت الأبواب أمام عودة مصر إلى موقعها الطليعي في الأمَّة العربية.

ولم يكن نهج التقوقع الإقليمي والانعزال هو وحده البديل، الذي ساد في بلاد العرب عقب عزلة مصر التي فرضتها اتفاقيات "كامب ديفيد" والمعاهدة مع إسرائيل، بل ظهرت أيضاً بدائل أخرى بألوان دينية وطائفية، بعضها كان متجذّراً في المنطقة لكن دون تأثير سياسي فعّال، وبعضها الآخر كان مفتعلاً ونتاجاً طبيعياً لمرحلة الحروب الإسرائيلية وتداعياتها السياسية في المشرق العربي.

وقد ترسّخت في الثلاثين سنة الماضية جملة شعارات ومفاهيم ومعتقدات تقوم على مصطلحات "الوطن أولاً" و"الإسلام هو الحل" و"حقوق الطائفة أو المذهب" لتشكّل فيما بينها صورة حال المنطقة العربية بعد ضمور "الهوية العربية" واستبدالها بمصطلحات إقليمية ودينية وطائفية.

وهاهي الآن بلاد العرب تنتعش بحركات تغيير وحراك شعبي واسع من أجل الديمقراطية، لكن بمعزل عن القضايا الأخرى المرتبطة بالسياسات الخارجية وبمسائل "الهوية" للأوطان وللنظم السياسية المنشودة كبديل لأنظمة الاستبداد والفساد.

وهاهما ثورتا تونس ومصر تشهدان تساؤلاتٍ عديدة عن طبيعة الحكم القادم في كلٍّ منهما في ظلّ تزايد المخاوف من هيمنة اتجاهات سياسية دينية على مقدّرات الحكم.

كلّ ذلك يحدث الآن بينما تنشدّ بلدان "أفريقيا العربية" إلى الهموم الداخلية بأوطانها، وفي ظلّ مشاريع تدويل أزماتها، كما الحال في ليبيا والسودان والصحراء المغربية. يرافق ذلك أيضاً انشغال بلدان "آسيا العربية" بأزمات داخلية تهدّد وحدة الأوطان بمخاطر التقسيم والحروب الأهلية. وهكذا تمتزج الآن على الأرض العربية مشاريع تدويل أزمات داخلية عربية مع مخاطر تقسيم مجتمعات عربية وسط رياح عاصفة تهبّ من الشرق الإقليمي ومن الغرب الدولي، ومن قلب هذه الأمّة حيث مقرّ المشروع الصهيوني التقسيمي.

 

لقد كان أيضاً بديل مرحلة "العروبة" عصر التطرّف في الأفكار، والعنف في الأساليب، والجهل في الدين، والتجاهل للوقائع ولحقيقة ما يحدث على أرض هذه الأمَّة وبين شعوبها.

عصرٌ رفض الهويّة العربية المشتركة، بل ورفض أحياناً كثيرةً الهويّة الوطنية، عصرٌ أراد وصم شعوب هذه الأمَّة بتصنيفات تقسيمية للدين وللعروبة وللأوطان.

عصرٌ أراد إقناع أبناء وبنات البلاد العربية أنّ مستقبلهم هو في ضمان "حقوقهم" الطائفية والمذهبية، وفي الولاء لهذا المرجع الديني أو ذاك، بينما خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي تفتيت الأوطان والشعوب وجعلها ساحة حروب لقوى دولية وإقليمية تتصارع الآن وتتنافس على كيفيّة التحكّم بهذه الأرض العربية وبثرواتها.

هناك حتماً أكثرية عربية لا تؤيّد هذا الطرح "الجاهلي" التفتيتي ولا تريد الوصول إلى نتائجه الوخيمة، لكنّها أكثرية "صامتة" إلى حدٍّ ما، ومن يتكلّم منها بجرأة يفتقد المنابر الإعلامية والإمكانات المادية، فيبقى صوته خافتاً أو يتوه هذا الصوت في ضجيج منابر المتطرّفين والطائفيين والمذهبيين الذين هم الآن أكثر "حظّاً" في وسائل الوصول إلى الناس.

فالعرب يحصدون نتائج زرعٍ متعدّد المصادر جرى في العقود الأربعة الماضية، وقد استغلّت أطراف خارجية ومحلية سلبياتٍ كثيرة كانت ترافق فكر وممارسات الحركة القومية العربية، لكنْ هذه العقود الزمنية الطويلة أثبتت أنّ "البديل الحامل للتسميات الدينية" لم يفتح آفاقاً جديدة في الهويّة أو الانتماء، وإنّما قزَّم الواقع العربي إلى مناطق ومدن وأحياء في كلّ بلد عربي، فتحوّلت الهويّة الدينية الشمولية إلى هويّة في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إنْ كان من طائفةٍ أخرى أو مذهبٍ آخر، أو حتى من اتجاهٍ سياسيٍّ آخر!

وكما فشل هذا "البديل" الموصوف بتسميات دينية في توحيد شعوب هذه الأمّة، فقد عجز "البديل الوطني" أيضاً عن بناء مجتمعٍ تكون الأولويّة فيه للولاء الوطني. بل إنّه لا يمكن بناء أوطان عربية سليمة في ظلِّ غياب الهويّة العربية، وحيث الفهم الخاطئ للدين وللتعدّد الفقهي فيه، ولكيفية العلاقة مع الآخر أيّاً كان.

فتعزيز الهوية الوطنية يتطلّب إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل، كما يستوجب تحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي، فذلك أمر مهم لبناء علاقات عربية أفضل، ولضمان استمرارية أيّ صيغ تعاون عربي مشترك. وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ لأزمة العلاقات بين البلدان العربية فقط، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلِّ بلدٍ عربي ولمواجهة مخاطر الانفجار الداخلي في كل بلد عربي.

 

إنّ المدخل السليم لنهضة هذه الأمَّة من جديد، وللتعامل مع التحدّيات الخطيرة التي تستهدف أوطانها وشعوبها وثرواتها، هو السعي لبناء هُويّة عربية جامعة تلمّ شمل هذه الأمَّة وما فيها من خصوصيات وطنية وأثنية وطائفية، وتقوم على حياة سياسية ديمقراطية سليمة تعزّز مفهوم المواطنة وتحقّق الولاء الوطني الصحيح.

إنّ ذلك يحتاج حتماً إلى طليعة عربية واعية وفاعلة تبني النموذج الجيد لهذه الدعوة العربية المنشودة. ولن يتحقّق ذلك البناء في زمنٍ قصير، لكنّه الأمل الوحيد في مستقبل أفضل يحرّر الأوطان من الأستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية، ولا يفتّتها بعد تحريرها، ويصون الشراكة مع المواطن الآخر في الوطن الواحد، فلا يكون مُسهِّلاً عن قصدٍ أو عن غير قصد لسياسات أجنبية تفرّق بين العرب لتسود عليهم.

لقد سقطت بدائل العروبة في امتحاناتٍ كثيرة، لكن المشكلة أنّ هناك ندرةً حالياً في الأيدي الرافعة للعروبة!

وهناك بلا شك خميرة عربية جيدة صالحة في أكثر من مكان، وهي الآن تعاني من صعوبة الظرف وقلّة الإمكانات وسوء المناخ الانقسامي المسيطر، لكن تلك الصعوبات لا يجب أن تدفع لليأس والإحباط بل إلى مزيدٍ من المسؤولية والجهد والعمل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة تماماً لصالح من يعبثون في وحدة هذه الأمّة ويشعلون نار الفتنة في رحابها.

فمن الطبيعي أن تنتفض شعوب المنطقة وأن تُطالب بأوضاع أفضل وأن تسعى من أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، لكن المشكلة أنّ التحرّك الجماهيري يحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف وليس لمصالحها الخاصّة.. فهل هذه العناصر كلّها متوفّرة في الحركات الشعبية العربية الظاهرة حالياً؟ إذ السؤال المهم الآن هو لماذا يمرّ طريق الديمقراطية في نفق مخاطر تجزئة الكيانات أو إخضاعها للسيطرة الأجنبية أولاً؟! ثم كيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد؟

أسئلة عديدة معنيّة بها الحركات الشعبية العربية وقادتها في ظلِّ هذا الضجيج الحاصل حول مستقبل المنطقة العربية بعد مرحلة "الثورات والانتفاضات".

 

 

9-5-2011

=====================================================================
أيّة "هُويّة" للحراك من أجل الديمقراطية؟!

 

 

حينما ينتفض شعبٌ ما في أيِّ بلد من أجل المطالبة بالعدالة السياسية والاجتماعية، تصبح حركته قوة تغيير نحو مستقبل أفضل، بينما العكس يحدث إذا تحرّكت الجماعات البشرية على أساس منطلقات أثنية أو طائفية، حيث أنّ الحروب الأهلية ودمار الأوطان هي النتاج الطبيعي لمثل هذا الحراك.

إنّ التعدّدية بمختلف أشكالها، ومنها الاختلاف في الخلق والأجناس واللغات والطوائف، هي سنّة الخالق الحتمية على هذه الأرض، والطبيعة تؤكّد تلك الحقيقة في كلِّ زمانٍ ومكان. لكن ما هو خيارٌ بشري ومشيئةٌ إنسانية هو كيفيّة التعامل مع هذه "التعدّدية" ومن ثمّ اعتماد ضوابط لأساليب التغيير التي تحدث في المجتمعات القائمة على "التعدّدية".

فليس المطلوب عربياً، وهو غير ممكن أصلاً، أن تتوقّف كل مظاهر الصراعات في المجتمع. فهذه دعوة للجمود ولمناقضة طبيعة الحياة وسنّتها التي تقوم على التحوّل والتغيير باستمرار، وعلى التصارع بين ماضٍ وحاضر ومستقبل. لكن المؤمّل به هو أن تأخذ الصراعات السياسية والاجتماعية أولويّة الاهتمام والتفكير والعمل بدلاً من الصراعات الأخرى التي تجعل الناس مثلاً يحاربون بعضهم البعض فقط لمجرّد توزّعهم على انتماءات أثنية أو طائفية أو قبلية مختلفة.

إنّ المجتمعات الديمقراطية المعاصرة قد توصّلت إلى خلاصات مهمّة يمكن الأخذ بها في أيّ مكان. وأبرز هذه الخلاصات هي التقنين الدستوري السليم لتركيبة المجتمع ممّا يصون حقوق "الأكثرية" والأقلّيات معاً، رغم مبدأ خضوع الجميع لما تختاره أكثرية الناخبين حينما تكون هناك انتخابات عامَّة في البلاد.

وأيضاً لا بدّ في هذه المجتمعات من توافر الحدّ الأدنى من ضمانات الأمن والغذاء، وبعض الضمانات الاجتماعية والصحية، ممّا يكفل التعامل مع مشكلتيْ "الخوف" و"الجوع"، فلا تكون "تذكرة الانتخاب" أسيرة ل"لقمة العيش"، ولا يخشى المواطن من الإدلاء برأيه أو المشاركة بصوته الانتخابي كما يملي عليه ضميره، لا كما يرغب من يتحكّم بلقمة عيشه أو من يرهبه في أمنه وسلامته.

هذه أسس هامّة لبناء المجتمعات الحديثة، ولتوفير المناخ المناسب لوحدة الأوطان، ولتقدّمها السياسي والاجتماعي، ولمنع الاهتراء في أنظمتها وقوانينها، كما هي عاملٌ مهم أيضاً في منع تحوّل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية إلى براكين نار تحرق نفسها ومن حولها.

إذن، من غير توفّر مقومات لبناء نظام سياسي ديمقراطي، فإنّ أيَّ ضغطٍ عنفي لتغييرٍ ما في المجتمع قد يتحوّل إلى أداة تفجير اجتماعي وأمني يصعب التحكّم بنتائجه.

كذلك، فإنّ عدم الالتزام بأساليب التغيير الديمقراطية يعني تحويراً للانقسامات السلمية نحو مسارات عنيفة. فالانقسامات السلمية الصحية في المجتمعات تحتاج لضمانات التغيير الديمقراطي من قِبل الحاكمين والمعارضين معاً.

وتعيش الآن المنطقة العربية بمعظمها مخاطر التهديد للوحدة الوطنية كمحصّلة لمفاهيم أو ممارسات خاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من الأوطان العربية، وما يزال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية، ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.

وقد اعتقد بعض العرب، خاصّةً ممّن هم في مواقع الحكم، أنّ إضعاف الهوية الثقافية العربية أو الانتماء للعروبة بشكل عام، سيؤدّي إلى تعزيز الولاء الوطني، لكنّ ذلك كان أشبه بِمن أراد إضعاف التيّارات السياسية الدينية من خلال الابتعاد عن الدين نفسه، عوضاً عن الطرح السليم للعروبة والدين، وبإفساح المجال أيضاً لحرّية التعبير السياسي والفكري للتيّارات كلّها.

إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لكلٍّ من (الوطنية والعروبة والدين) يتطلّب أصلاً نبذاً لأسلوب العنف بين أبناء المجتمع الواحد، مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توفّر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي.

إنّ أساس الخلل الراهن في جسم الأمَّة العربية هو في عقول العديد من المفكرين والسياسيين وعلماء الدين الذين فشلوا عملياً في الحفاظ على الظاهرة الصحية بالتعدّد الطائفي والمذهبي والأثني في مجتمعاتهم، حيث أصبحت الأفكار والممارسات تصبّ كلّها في أطر فئوية موجّهة كالسّهام ضدّ الآخر في ربوع الوطن الواحد.

فالتعدّدية كانت قائمة في البلاد العربية خلال الخمسينات والستينات، لكنّها لم تكن حاجزاً بين الشعوب ولا مانعاً دون خوضٍ مشترك لمعارك التحرّر والاستقلال الوطني، بل كانت مفخرة معارك التحرّر آنذاك أنّها تميّزت بطابع وطني عام صبغ القائمين بها، فكانت فعلاً مجسّدةً لتسمية "حركة تحرّر وطني".

اليوم، نتعايش مع إعلام عربي وطروحات فكرية وسياسية لا تخجل من توزيع العرب على طوائف ومذاهب وأقليات بحيث أصبحت الهويّة الوطنية الواحدة غايةً منشودة بعدما جرى التخلّي المخزي عن الهوية العربية المشتركة.

هو انحطاط، وهو انقسامٌ حاصلٌ الآن بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدام السلاح الطائفي والمذهبي والأثني في حروبها وصراعاتها المتعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الثلاثة الماضية. وهاهي الأمَّة العربية الآن تعيش تحوّلاتٍ سياسية خطيرة هي نتاج طبيعي لتراكم ما حدث من تفاعلات ومتغيّرات في الثلاثين سنة الماضية، كان "الخارج" و"الداخل" فيها مسؤوليْن عن عصارة السلبيات التي تنخر الآن في جسد الأمَّة.

إنّ الشّباب العربي المعاصر لم يعش حقباتٍ زمنيّة عاشها من سبقه من أجيال أخرى معاصرة، كانت فيها الأمّة العربيّة موحّدةً في مشاعرها وأهدافها وحركتها رغم انقسامها السياسي على مستوى الحكومات. مراحل زمنيّة كان الفرز فيها بالمجتمع يقوم على اتجاهات فكريّة وسياسيّة، لا على أسس طائفيّة أو مذهبيّة أو حتّى إقليميّة. لكن سوء الممارسات في بعض التجارب الماضية، والعطب في البناء السياسي الداخلي، إضافةً إلى التدخّل والتآمر الخارجي، أدّى كلّه للإساءة إلى المفاهيم نفسها، فاستُبدِل الانتماء القومي والوطني بالهويّات الطائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة، وأضحى العرب في كل وادٍ تقسيميٍّ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون!.

هي فرصةٌ هامّة، بل هي مسؤوليّةٌ واجبة، للجيل العربي الجديد المعاصر الآن، أن يدرس ماضي أوطانه وأمَّته بموضوعيّة وتجرّد، وأن يستخلص الدروس والعبر لبناء مستقبلٍ جديد أفضل له وللجيل القادم.

إنّ رفض الواقع والعمل من أجل تغييره هو مدخل صحيح لبناء مستقبل أفضل، لكن حين لا تحضر بمخيّلة الإنسان العربي صورة أفضل بديلة لواقعه، فإنّ النتيجة الحتمية هي السير في طريق مجهول لا تُعرف عقباه. وكذلك هي مشكلة كبرى حين يوجد عمل لكن في اتجاهٍ غير صحيح.

فعسى أن تكون الآن حركة الجيل العربي الجديد دافعاً لترسيخ الهويّة الثقافيّة العربيّة ومضمونها الحضاري، ومنطلقاً لبناء نهضة عربيّة ووطنيّة مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة لا الانتماء الطائفي أو المذهبي أو الأصول العرقيّة، وتستهدف الوصول - بأساليب ديمقراطيّة لا عنفيّة - إلى " اتحاد عربي ديمقراطي" حرّ من التدخّل الأجنبي، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها كما تتساوى في كلٍّ منها حقوق المواطنين.

فالصراع على "الهُويّة" في المنطقة العربية هو جوهر الصراعات السائدة الآن، وهو صراع دولي/إقليمي في إطاره العام الجاري حالياً، ويريد البعض تحويله إلى صراعات طائفية ومذهبية في أكثر من مكان. لكن صمّام الأمان لوحدة الأوطان والمجتمعات العربية يكون في التأكيد على الطبيعة السياسية للصراع وفي ملء الفراغ الكامن عربياً من حيث انعدام المرجعية العربية الفاعلة والمشروع العربي الواحد لمستقبل الأمَّة وأوطانها. وهذا المشروع لن تقوم له قائمة ما لم تكن حاضرةً فيه، ومعاً، ركائزه الثلاث: الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية.

 

25-4-2011

 

=====================================================================
ثوراتٌ وانتفاضات على أرضيّة مشاريع فتنةٍ وتدويل

 

الأمَّة العربية الآن هي في لحظةٍ زمنية كتلك التي تفصل الليل عن النهار أو العكس. فما يحدث فيها قد يكون مطلع فجرٍ جديد ونهارٍ واعد بنور شمس ساطعة، أو قد يكون بداية ليلٍ تلبس فيه الأمَّة ثوب الظلام بعد معاناةٍ طويلة من يوم الظالمين.

فالوجه الإيجابي المشرق في الأمَّة هو ما يحدث فيها من إصرار على التغيير والإصلاح وعلى طي صفحات الظلم والاستبداد والفساد. لكن الوجه الآخر السلبي أنّ ذلك التحرك الشعبي كلّه يحدث على أرضٍ عربية ممزّقة منذ قرن من الزمن، وبين شعوب منقسمة على نفسها وطنياً ودينياً.

فالأمل بغدٍ أفضل لا يرتبط بوجود ثورات وحركات تغيير فقط، بل الأساس هو مرسى هذا التغيير ونتائجه. إذ هل الديمقراطية السليمة، القائمة على وحدة وطنية شعبية وعلى ترسيخ الولاء الوطني وعلى الهويّة العربية وعلى التمسّك بوحدة الكيان الوطني، هي البديل لأنظمة دكتاتورية، أم سيكون بديلها صراعات أهلية وتقسيمات جغرافية وتدويل أجنبي؟ وما هي ضمانات حدوث التحوّل نحو الديمقراطية السليمة طالما أنّ المجتمعات العربية موبوءة بأمراض التحزّب الطائفي والمذهبي والأثني؟ وطالما هناك أيضاً مشاريع فتنة وتقسيم وتدويل لدول المنطقة؟!

أمام العرب في مطلع هذا العام نماذج إيجابية وسلبية تحدث على الأرض العربية: فالسودان خسر جنوبه بعد حربٍ أهلية وتدويلٍ لأزماته وتدخّلٍ أجنبيٍّ سافر في ظلّ عجزٍ رسمي عربي. ثم جاءت ثورتا تونس ومصر لتشعلا الأمل بمستقبل عربي أفضل من حيث أسلوب التغيير الذي حدث في هذين البلدين وسلمية التحرك الشعبي والبعد الوطني التوحيدي فيهما. وها هي الأمَّة العربية تشهد الآن انتفاضاتٍ عربية في بلدان أخرى بعضها مُهدَّد بخطر التقسيم وبعضها الآخر بخطر التدويل والكل بمخاطر الحروب الأهلية والتدخّل الأجنبي.

وهناك أسئلة كثيرة تدور الآن في الأذهان عن غايات وأبعاد الطروحات والممارسات الطائفية والمذهبية أو الأثنية التي تسود، بشكلٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ العربي الحديث، عدّة بلدانٍ عربية. ويكبر حجم الأسئلة حينما نرى مثلاً هذا  التركيز الإعلامي والسياسي في المنطقة، على تفسير أي حدثٍ فيها بشكلٍ طائفي أو مذهبي ثمّ توزيع المناطق والمنظمات والحركات السياسية العربية على قوالب طائفية ومذهبية.

فاستمرار التداعي في الانقسام عربياً ومواصلة الفرز الطائفي أو الأثني بين مجموعات الشعب الواحد في كلِّ بلدٍ عربي، هو مسؤولية عامة تشمل المجتمع ككل ويحمل المخاطر للأجيال المقبلة. إنّ المغامرة التي يقودها البعض في بلدانٍ عربية متعدّدة من أجل تحويل الطوائف والمذاهب والأقليات العرقية إلى كياناتٍ سياسية منعزلة لن يكون مصيرها إلا نحر الطائفة أو المذهب أو الأقلية العرقية.

إنّ التقسيم الجغرافي والسياسي يقيم الحواجز والحدود بين الدول بالحبر الأحمر، لكنّه لا يلغي وحدة الشعوب، بينما التقسيم الديني والعرقي يمزق الناس أنفسهم ويجعل الحدود بينهم بالدم الأحمر.

فكيف يمكن وقف هذا الانحدار نحو مزيدٍ من الشرذمة للأوطان والشعوب العربية وتجنّب الوقوع في الأفخاخ المرسومة للمنطقة؟ إنّ الإجابة عن ذلك لا تتوقّف على فردٍ أو جماعة أو طائفة بأسرها، وإنّما المسؤولية تشمل العرب جميعاً من المحيط إلى الخليج، وفي كلّ بقعةٍ بالعالم يعيش عليها أبناء البلدان العربية. فالمسؤولية تبدأ عند كلّ فرد عربي، وهي مسؤولية كلّ عائلة في أن تفرِّق خلال تربية أولادها بين الإيمان الديني وبين التعصّب الطائفي والمذهبي الذي يرفضه الدين نفسه. وهي مسؤولية كلّ طائفة أو مذهب، بأن يدرك أتباع هذه الطائفة أين تقف حدود الانتماء إلى طائفة، فلا نردّ على الحرمان من امتيازاتٍ سياسية واجتماعية، أو من أجل التمسّك بها، بتحرّكٍ يحرمنا من الوطن كلّه بل ربّما من الوجود على أرضه. والمسؤولية تشمل أيضاً الأنظمة كلّها والمنظمات العربية كلّها التي استباحت لنفسها استخدام الاختلافات الدينية أو العرقية في صراعها مع بعضها البعض أو من أجل تحقيق مكاسب سياسية آنيّة لها. وعلى الجميع أيضاً، تقع مسؤولية فهم ما يحصل بأسبابه وأبعاده السياسية، وليس عن طريق المعالجة الطائفية والمذهبية لتفسير كل حدثٍ أو قضية أو صراع ...

 

إنّ البناء الدستوري السليم، الذي يحقّق العدالة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد ويضمن الحرّيات العامة للأفراد والجماعات، هو السياج الأنجع لوحدة أي مجتمع. كذلك، فإنّ المعرفة الأفضل لكلٍّ من الدين والهوية العربية، والعرض السليم لهما من قبل المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية، سيساهم بلا شك في معالجة الانقسامات الطائفية والعرقية في المنطقة العربية. وليكنْ المعيار دائماً، في كلِّ كلمةٍ أو عمل أو حركةٍ أو صراع، هو التساؤل عمّا وعمّن يخدم ما نقوله أو ما نفعله، وإلى أين يمكن أن نصل؟ ففي المعارك والصراعات تكون الأعمال بالنتائج وليس بالنيّات!!

 

صحيح أنّ هناك قوى خارجيّة تعمل على تأجيج الصّراعات الدّاخليّة العربيّة، وأنّ هناك مصلحة أجنبيّة وإسرائيليّة في تفكيك المجتمعات العربيّة، لكن العطب أساساً هو في الأوضاع الدّاخليّة التي تسمح بهذا التدخّل الخارجي، الإقليمي والدولي. إنّ البلاد العربيّة لا تختلف عن المجتمعات المعاصرة من حيث تركيبتها القائمة على التّعدّديّة في العقائد الدّينيّة والأصول الأثنيّة، وعلى وجود صراعات سياسيّة محليّة. لكن ما يميّز الحالة العربيّة هو حجم التّصدّع الداخلي في أمّةٍ تختلف عن غيرها من الأمم بأنّها أرض الرّسالات السماويّة، وأرض الثروات الطبيعيّة، وأرض الموقع الجغرافي الهام. وهذه الميزات الثلاث كافية لتجعل القوى الأجنبيّة تطمح دائماً للاستيلاء على هذه الأرض أو التحكّم بها والسّيطرة على مقدّراتها.

ولا يجوز إلقاء المسؤوليّة فقط على "الآخر" الأجنبي أو الإسرائيلي فيما حدث ويحدث في بلاد العرب من فتن وصراعات طائفيّة وعرقيّة. فعدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة فيه تثبيتٌ لعناصر الخلل والضعف وللمفاهيم التي تغذّي الصّراعات والانقسامات. إنّ غياب الولاء الوطني الصّحيح في معظم البلاد العربيّة مردّه ضعف مفهوم الانتماء للوطن وسيادة الانتماءات الفئويّة القائمة على الطّائفيّة والقبليّة والعشائريّة. ويحصل الضعف عادةً في الولاء الوطني حينما تنعدم المساواة بين المواطنين في الحقوق السياسية والاجتماعيّة، وحينما لا تكون هناك مساواة أمام القانون في المجتمع الواحد. أيضاً، إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو البيئة المناسبة لأي صراع طائفي أو عرقي يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتنوّع والتّعدّد إلى عنف دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة والحكمة أصلاً من وجودها على الأرض!

 

المنطقة العربية تعيش الآن أخطر التحدّيات على بلدانها وأرضها وثرواتها ووحدة مجتمعاتها، دون أي سياج فكري يحصّن الأوطان أو يساهم في دفع الأوضاع نحو مستقبل أفضل. حتى الأطر السياسية لحركات المقاومة القائمة الآن في المنطقة العربية هي أطر محكومة بمواصفات فئوية مهما كانت قيمة أعمالها وشمولية إنجازاتها. وهذه الأطر السياسية الحاملة لمشعل المقاومة ضدّ الاحتلال تقوم في ظلّ بيئات موبوءة بأوضاع انقسامية تحاصر الإنجازات وتشوّه أحياناً صورة العمل المقاوم نفسه. إنّ البلدان العربية هي الآن على مفترق طرق بين واقع الانقسام على مستوى الحكومات وعلى مستوى الشعوب، وبين أمل البناء السليم للأوطان وللعلاقات الإيجابية بين دول وشعوب الأمَّة الواحدة. لكن الخيار في اتجاه الطريق لا يتوقف فقط على وجود الرغبة بل على مدى القدرة، ولن يحصل القرار الصحيح بمجرّد الإعلان عنه بل بالعمل الجاد والفاعل لتحقيقه. وهذا الأمر هو مسؤولية عربية مشتركة تشمل الحكومات والشعوب وكل مواقع الفكر والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني.

 

19-4-2011

=====================================================================
ثوراتٌ عربية.. ومشاريع أميركية وإسرائيلية

 

حالٌ من القلق يعمّ الآن المنطقة العربية بعد أن كانت بدايات هذا العام تحمل بوارق أمل بغدٍ أفضل. نجحت ثورة تونس أولاً، ثمّ بعدها ثورة مصر، في تحريك الشارع العربي، ومعه الأمل العربي بفجرٍ جديد على منطقةٍ سادها لعقودٍ طويلة ظلام وظلم الفساد والاستبداد.

لكن ما نجح من أسلوبٍ وأهداف في تجربتيْ مصر وتونس لم يُكتب له بعدُ النجاح في أمكنة عربية أخرى. فالظروف مختلفة، كما هي أيضاً القوى الفاعلة في مصير هذه البلدان الأخرى.

هناك بلا شك إيجابياتٌ تحقّقت حتى الآن، لكن مظلّة السلبيات ما زالت تغطّي سماء المنطقة وتحجب شروق شمس التغيير السليم المنشود فيها. فثورتا تونس ومصر اتّسمتا بالأسلوب السلمي وبالطابع الوطني التوحيدي وبغياب مخاطر التقسيم والتدويل، وبالأمل في تغيير سياسي يصبّ في صالح الوطن والعروبة ونهج المقاومة، لا في صالح الأجانب وإسرائيل ونهج الشرذمة.

هناك خوفٌ الآن على الثورات العربية الأخرى، على نفسها وعلى أوطانها وعلى أهدافها. فالخوف مشروعٌ طالما أنّ المنطقة هي ساحة تنافس وصراع مصالح بين قوى إقليمية ودولية بينما يغيب تماماً أيُّ "مشروع" عربي، وفي ظلِّ حضور "مشاريع" غير العرب. 

لقد أشرت مع بداية ثورتيْ تونس ومصر إلى أنّ الثورات هي أساليب يرتبط نجاحها بتوفّر القيادات المخلصة والأهداف الواضحة والبناء التنظيمي السليم. كذلك ناشدت، في الأسبوع الأول من انطلاقة الثورة الليبية، الجامعةَ العربية، ومصرَ تحديداً، بالتدخّل لصالح الثورة والشعب الليبي قبل أن يتدخّل الأجانب وقبل أن تصبح ليبيا أمام مخاطر التدويل والتقسيم. وطبعاً لم يحدث ذلك عربياً ولا مصرياً. أيضاً، كتبت عن "المتغيّرات" العربية التي تحدث في ظلّ "ثوابت" ظروف وصراعات في المنطقة، والتي منها التحدّي الإسرائيلي ومراهناته على إضعاف الثورات العربية بتفتيت شعوبها وأوطانها، وبتعويض خسارة "الجبهة المصرية" بفِتَن على "الجبهة الشرقية" تُضعف نهج المقاومة في لبنان وفلسطين.

فالثورات العربية تحدث بينما أوطان بعض هذه الثورات تقوم على مفاهيم وأفكار وممارسات طائفية ومذهبية تؤذي الثورات والقائمين بها، فلا سياج وطني عام يحميها من شرور الحكومات والقوى الخارجية ذات المصلحة في إحداث فتن داخلية.

والمنطقة العربية كانت، وما تزال، في حالٍ من الصراعات والخلافات بين حكومات دول المنطقة، ولم يؤدِّ بعدُ التغيير الذي حدث في مصر إلى إعادة التضامن العربي، الذي تصبح المنطقة في غياب حدِّه الأدنى  فارغةً من أيّ رؤية أو "مشروع" عربي يقابل ما هو يُطرَح (ويُنفَّذ) من رؤى ومشاريع إقليمية ودولية. فتكون المنطقة العربية مُسيَّرةً في سياساتها وأوضاعها حتى لو أدّت الثورات إلى جعلها مُخيَّرةً في أمورها الداخلية.

أجد الآن المنطقة العربية "مخيَّرة" بين مشروع أميركي وآخر إسرائيلي، وهما يتقاطعان في مناطق اتفاقٍ مشتركة ويختلفان في أخرى. المشروع الإسرائيلي ما زال يراهن على صراع عربي/إيراني في الخارج الإقليمي وعلى صراعات وفتن طائفية ومذهبية وأثنية في الداخل العربي. فهذا فقط ما يصون "أمن إسرائيل" ومصالحها في المنطقة، وما ينهي نهج المقاومة ضدَّ احتلالها، وما يجعل "العدو" هو العربي الآخر (أو الإيراني المجاور)، وما يُنسي شعوب المنطقة القضية الفلسطينية، وما قد يُسّهل فكرة "الوطن البديل" في الأردن، وما يجعل الثورات العربية الحاصلة قوّة تغييرٍ لكيانات وليس فقط لحكومات!.

أمّا المشروع الأميركي الراهن فهو، من وجهة نظري، يُراهن على استثمار الثورات والمتغيّرات العربية لصالح مشروع أميركي لعموم منطقة الشرق الأوسط ويقوم على إنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي على كلّ الجبهات، وتحقيق التطبيع العربي الشامل مع إسرائيل، وإعلان "دولة فلسطينية" بحيث ينشأ وضع جديد في عموم المنطقة لا تكون فيه مبرّرات لحالات مقاومة ولا لعلاقات خاصة مع إيران بل توافق أميركي/عربي شامل من المحيط إلى الخليج، في ظلّ ترابط أمني واقتصادي وتجاري وسياسي بين واشنطن وكل عواصم المنطقة.

طبعاً، أيٌّ من المشروعين الإسرائيلي أو الأميركي سيتوقّف تحقيقه على شعوب المنطقة نفسها وعلى الأطراف العربية والإقليمية المجاورة، فإن سارت هذه الشعوب وحكوماتها في "نهج الصراعات العُنفية" فإنّها حتماً تخدم "المشروع الإسرائيلي" ومراهناته، أمّا إذا تجاوبت المنطقة مع خيار "نهج التسويات" الأميركي فإنّ بلدان هذه المنطقة ستكون سابحةً كلّياً في الفلك الأميركي الذي يرى في هيمنته على المنطقة وثرواتها وموقعها، ضماناً إستراتيجياً لاستمرار أميركا الدولة الأعظم في العالم.

هذه هي خيارت المنطقة الآن في ظلِّ غياب "المشروع العربي" الواحد وفي مناخ الانقسامات السائدة بالمجتمعات العربية.

لقد كان المشروع الأمريكي للمنطقة خلال حقبة بوش و"المحافظين الجدد" يقوم على فرض حروب و"فوضى خلاّقة" و"شرق أوسطي جديد"، وفي الدعوة لديمقراطيات "فيدرالية" تُقسّم الواطن الواحد ثم تعيد تركيبته على شكل "فيدرالي" يحفظ حال التقسيم والضعف للوطن، ويضمن استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواته ومقدّراته وقرارته. وكانت نماذج هذا المشروع في العراق وفي السودان معاً.

الآن نجد إدارةً أمريكية تعمل على تحقيق المصالح الأمريكية من خلال دعوة الحكومات العربية (والضغط عليها) لتحقيق إصلاحات دستورية واقتصادية تحفظ استمراريتها وتضمن أيضاً في هذه البلدان بقاء المصالح الأمريكية، إذ لا يهمّ الحاكم الأمريكي إلا المصالح الأمريكية، فهو قد يكون مع تغيير أشخاص وحكومات في بلدٍ ما ولا يكون كذلك في بلدان أخرى. الأمر يتوقّف طبعاً على "ظروف" هذا البلد ونوع العلاقة الأمريكية مع المؤسسات القائمة فيه بما فيها المؤسسة العسكرية، لكن الاعتبار الأمريكي الأهم هو "نوع" البدائل الممكنة لهذا النظام أو ذاك.

وسيكون هذا العام هو المحطّة الأهم في مسيرة إدارة أوباما وفي تقرير مصير رئاسته الثانية، فهناك جملة استحقاقات هذا العام منها؛ بدء الانسحاب الأميركي من أفغانستان في منتصف الصيف، ثم إنهاء الانسحاب من العراق في ديسمبر، كما هو أيضاً عام تقرير مصير مشروع الدولة الفلسطينية ومستقبل عملية التسوية للصراع العربي-الإسرائيلي. وكذلك هي أهمية هذا العام بالنسبة للاقتصاد الأميركي ومعدل نسبة البطالة فيه. وستحاول الآن إدارة أوباما استثمار ما يحدث من متغيّرات في المنطقة العربية قبل العام القادم، وهو موعد بدء الحملات الانتخابية الرئاسية. هي أمورٌ كثيرة ستتوقّف نتائجها على شعوب المنطقة العربية وليس على ما يطمح له أيُّ طرفٍ خارجي.

فصحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثّرة في تأجيج الانقسامات، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخٍ كبير داخل المجتمعات العربية؟ الأمّة العربية قبل هذه الانتفاضات الشبابية كانت تعيش كابوس خطر تقسيم كلّ قطر على أسس عرقية وأثنية وطائفية ومذهبية. وكانت الأمّة تخشى على نفسها من نفسها أكثر ممّا يجب أن تخشاه من المحتلّين لبعض أرضها والساعين إلى السيطرة الكاملة على ثرواتها ومقدّراتها. فضعف جسم الأمّة العربية كان من ضعف قلبها في مصر، ومن استمرار عقل هذه الأمّة محبوساً في قوالب فكرية جامدة يفرز بعضها خطب الفتنة والانقسام بدلاً من التآلف والتوحّد. فهل ما يحدث الآن هو خطوة إلى الأمام في سبيل خطوتين للوراء؟!

 

11-4-2011

 

=====================================================================
ملاحظات على مسار المسيرات الشعبية العربية

 

لفت انتباهي، من جملة ما يصلني من رسائل ومقالات توزَّع على شبكة الإنترنت، ما كتبه بعض المفكرين والكتّاب العرب من ملاحظات على مسار الانتفاضات والثورات العربية الجارية حالياً. ومن هذه الملاحظات ما كتبه الدكتور خالد الناصر من تعليق على مقال الدكتور مخلص الصيادي حول المظاهرات الشعبية التي حدثت في سوريا. قال الدكتور الناصر: "أنا أرى أن يتمَّ التمسّك بالخطوط التالية : 1- سلمية الحراك الشعبي مهما كانت ردود فعل النظام . 2- الوحدة الوطنية وعدم السماح بالانزلاق إلى أيِّ طرحٍ طائفي مهما حدث . 3- عدم إعطاء أيَّة فرصة للتدخّل الخارجي ناهيك عن موضوع استدعائه المرفوض كلياً . 4- عدم المساس بثوابت سوريا المعروفة تاريخياً عبر كلّ أنظمتها وهي الانتماء العربي والتمسّك بالمقاومة لقوى الهيمنة . 5- عدم استعداء حلفاء النظام الخارجيين سواء قوى المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، أو الدولية كإيران وتركيا، كما قد بدر من بعض القوى الحمقاء من المعارضة، وتحييدهم لأنّهم خارج موضوع هذا الصراع أصلاً. حينها يصبح تصعيد الحراك الشعبي هو الوسيلة التي لا مناص منها لحصول التغيير، وأي تفريط في الخطوط التي ذكرت سيكون نذير فشل ومثار خطر يجب أن نحذر منه وأن نتجنّبه، فنحن نريد سوريا المعافاة القوية الديموقراطية القادرة على أن تقوم بدورها القومي الهام في المنطقة وليس مجرّد استبدال نظام مسدود الأفق بنظام لا نعرف أين سيصبّ".  

أيضاً، كتب الدكتور علي فخرو مقالاً عن الأخطاء في مسيرة بعض الثورات، قال فيه:

"الشعارات الناجحة تحتاج أن تركّز على الأولويات المفصلية الكبرى، وأن تكون وطنيةً جامعة تقبلها أغلبية كبيرة من مكوّنات المجتمع، وأن لا تغفل أهميّة التوازنات والثوابت الإقليمية أو القومية وكذلك أهميّة تعاطف الخارج معها، وأن لا تصاحبها مظاهر رمزية فئوية يُشتَّم منها الطائفية أو العرقية أو القبلية، وعلى الأخصّ أن لا تصطدم بمرتكزات تاريخية ودستورية قامت عليها الدولة وتَوافَقَ عليها المجتمع عبر سنينٍ طوال".

كذلك، كتب الأستاذ كمال شاتيلا قائلاً:

"إنّ عوامل نجاح الثورة المصرية مهمّة جداً لتقاس على أساسها الانتفاضات والثورات والتحرّكات العربية، وأبرز هذه العوامل: أنّ الثورة كانت سلمية ولم تعتمد العنف المسلح، ونهضت على الوحدة الوطنية فلم تكن طائفيةً أو مذهبية أو فئوية، ومثّلت الأغلبية الشعبية ضدّ طبقة الأقلية. وبالتالي، حينما يكون هناك تحرّك فئوي انفصالي أو فئوي أو مسلّح في مكانٍ ما من العالم العربي، فلا يمكن أن نسمّيه انتفاضةً أو ثورة، لأنّ هناك فارقاً بين تغيير نظام وبين تقسيم وطن، وحين تبدأ القضية شعبيةً تحرّرية وتنتهي تقسيميةً استعمارية، فهذه ليست بثورة".

***

هذه نماذج محدودة ممّا بدأ يظهر في الكتابات العربية من حديث عن ضوابط ومفاهيم للثورات العربية بعد فترةٍ سادها أسلوب المدح الخالي من أيِّ نقد لما هي عليه طبيعة هذه الثورات أو نواقصها.

فالمنطقة العربية تشهد الآن ظاهرة "الثورات الديمقراطية" بمعزل عن أيّة قضية أخرى، حتّى بمعزل عن حرّية بعض الأوطان من الاحتلال أو الهيمنة الأجنبية.

ومن الطبيعي أن يتحرّك الشارع العربي وأن ينتفض ثائراً لإنهاء حالات الفساد والاستبداد، لكن المشكلة أنّ بعض الحركات السياسية المشاركة في الثورات الشعبية تحتاج هي نفسها إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف..

أيضاً، فإنّ الواقع العربي الراهن تختلط فيه مفاهيم كثيرة لم تُحسَم بعدُ فكرياً أو سياسياً. وهذه المفاهيم هي أساس مهم في الحركة والتنظيم والأساليب، كما هي في الأفكار والغايات والأهداف. فما هو الموقف من التعدّدية بمختلف أنواعها الفكرية والسياسية والدينية والأثنية داخل المجتمع، وما هو مصير دعم المقاومة المشروعة في فلسطين ولبنان؟ وما هي العلاقة بين حرّية الوطن وبين حرّية المواطنين؟ وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد؟ وهل طريق الديمقراطية يمرّ في تجزئة الكيانات؟ ثمّ ما هي آفاق هذا التغيير المنشود من حيث العلاقة مع إسرائيل، وهل ستكون "الشرق أوسطية" هي الإطار الجامع لدول المنطقة مستقبلاً أم ستكون هناك خطوات جدّية نحو تكامل عربي شامل يعزّز الهويّة العربية المشتركة ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية؟

تحدّثت في مقالةٍ سابقة، تضمنّها مع مقالاتٍ عديدة أُخرى كتابٌ لي - صدر حديثاً تحت عنوان: "الفكر والأسلوب في مسألة العروبة"، عن قوى التغيير في المجتمعات العربية قائلاً:

من غير توفّر مقومات نظام سياسي ديمقراطي، فإنّ أيَّ ضغط عنفي لتغييرٍ ما في المجتمع قد يتحوّل إلى أداة تفجير اجتماعي وأمني يصعب التحكّم بنتائجه.

كذلك، فإنّ عدم الالتزام بأساليب التغيير الديمقراطية يعني تحويراً للانقسامات السلمية نحو مساراتٍ عنيفة. فالانقسامات السلمية الصحّية في المجتمعات تحتاج لضمانات التغيير الديمقراطي من قِبَل الحاكمين والمعارضين معاً.

وقد يساعد، في تعميق هذه الخلاصات، فرزٌ مهمٌّ حدوثه لدى المنشغلين في هموم تغيير المجتمعات. فبمقدور المجتمعات العربية أن تحقّق خطواتٍ إيجابية أوسع لو وضعت باعتبارها لائحة "التمييز المطلوب" هذه:

·  التمييز المطلوب في العمل السياسي ما بين تغيير الحكومات وبين مخاطر تفكيك الكيانات الوطنية. فالخلط بين النظام الحاكم والكيان الوطني الواحد هو خطرٌ على الوطن كلّه. لذلك التمييز ضروري بين تغيير أشخاص وسلطات وقوانين وبين تهديم أسس الكيان الوطني والمؤسسات العامة في الدولة.

·  التمييز ضروري بين حقّ المقاومة المشروعة من أجل التحرير حينما تكون هناك أجزاء من الوطن خاضعة للاحتلال، وبين رفض أسلوب العنف المسلّح كوسيلة لإحداث التغيير داخل المجتمعات.

·  التمييز بين الطائفة أو المذهب، وبين الطائفية والمذهبية. فالحالة الأولى هي ظاهرة طبيعية إنسانية موجودة في أكثر من مجتمع يقوم على التعدّدية. أمّا الحالة الثانية، فهي ظاهرة مرَضيَّة تؤدّي إلى تفكّك المجتمع وضعفه وانقسامه.

·  التمييز بين الاعتزاز بالوطنية المحليّة، وبين الانعزاليّة الإقليمية التي لا تحقّق أمناً ولا تصنع وطناً قادراً على العيش في عصر العولمة. وكما التمييز مطلوبٌ بين الحرص على الولاء الوطني وبين التقوقع الإقليمي، فإنّ من المهم أيضاً التمييز بين الانفتاح على الخارج وبين التبعيّة له.

في مقابل هذه العناصر من "التمييز المطلوب"، فإنّ قوى التغيير في المجتمعات العربية معنيّةٌ أيضاً ب"عدم الفصل" بين جملة قضايا:

·  عدم الفصل بين الحرّية السياسية والحرّية الاجتماعية، أي "بين تأمين لقمة العيش وبين نزاهة البطاقة الانتخابية".

·  عدم الفصل بين حرّية الوطن وحرّية المواطن. فالاستبداد الداخلي هو المسؤول عن القابليّة للاستعمار الخارجي.

·  عدم الفصل بين أهمّية الإصلاح الداخلي في كلّ بلدٍ عربي وبين ضرورة إصلاح العلاقات العربية/العربية من أجل تكامل الأقطار العربية واتّحادها على أسس دستورية سليمة.

·  عدم الفصل بين المنطلقات والغايات والأساليب، وعدم الفصل بين الأطروحات النظرية وبين أساليب العمل التطبيقية. فكثيرٌ من الحركات السياسية العربية تقول ما لا تفعل، وتفصل بين الفكر والممارسة.

·  التمييز مطلوبٌ بين قدرتنا كعرب على تصحيح انقساماتنا الجغرافية من أجل حاضرنا ومستقبلنا، وبين انقساماتنا التاريخية في الماضي التي ما زلنا نحملها معنا جيلاً بعد جيل، ولا قدرة لنا أصلاً على تغييرها!

***

وستطمئنّ الأمَّة العربية لكلِّ تغيير يحدث الآن فيها إذا كانت سماته المشتركة هي الديمقراطية والتحرّر الوطني والحرص على الوحدة الوطنية والهويّة العربية. فلا ينفصل نجاح واحدة من هذه السمات عن الحاجة للنجاح أيضاً في السمات الأخرى.

4-4-2011

 


 

=====================================================================

قوى التغيير العربية ليست كلّها في سلَّةٍ واحدة

 

تتواصل الانتفاضات العربية وتمتدّ في حركتها ومسيراتها الشعبية على أكثر من بقعة عربية، لكن من الخطأ الآن وضع كل هذه الثورات والانتفاضات في سلّةٍ واحدة، ثمّ تأييدها والتضامن معها تبعاً لذلك. فالمعيار ليس هو المعارضة فقط أو أسلوب المسيرات الشعبية، بل الأساس لرؤية أيٍّ منها هو السؤال عن هدف هذه الانتفاضات ثمّ عن هويّة القائمين عليها. فمنذ انطلاقة الثورة التونسية أولاً ثمّ المصرية لاحقاً أشرت إلى أهميّة التلازم المطلوب بين الفكر والأسلوب والقيادات في أيِّ حركة تغييرٍ أو ثورة، وبأنّ مصير هذه الانتفاضات ونتائجها سيتوقّف على مدى سلامة هذه العناصر الثلاثة معاً. فالتغيير السياسي وتحقيق الإصلاحات الدستورية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية هو أمرٌ مرغوب ومطلوب لدى العرب أجمعين لكن من سيقوم بالتغيير وكيف.. وما هو البديل المنشود، وما هي تأثيراته على دور هذه البلدان وسياساتها الخارجية.. كلّها أسئلة لم تجد حتّى الآن إجابةً عنها في عموم المنطقة العربية، رغم أنّها مهمّةٌ جداً لفهم ما يحدث ولمعرفة طبيعة هذه الانتفاضات الشعبية العربية. أيضاً، المشكلة في الموقف من هذه الانتفاضات أنّ المعايير ليست واحدةً عند العرب ككُل، فصحيح أنّها تحدث على الأرض العربية وتترك تأثيراتها على المنطقة بأسرها، لكن ما هو معيارٌ شعبي عربي عام لدعم هذه الثورة أو تلك يختلف ربّما عن معيار أبناء الوطن نفسه. فمعظم العرب رحّبوا مثلاً بالثورة المصرية لأنّها أنهت عهداً من سياسةٍ خارجية مصرية كانت لا تعبّر عن مصر وشعبها ودورها التاريخي الريادي، بينما كان المعيار الأهم لدى الشعب المصري هو مسائل داخلية كالفساد السياسي للنظام السابق والظلم الاجتماعي الناتج عنه وغياب المجتمع الديمقراطي السليم.

لقد شهد العالم في نهاية القرن الماضي تغييراتٍ سياسية كبيرة فيما كان يُعرف باسم "المعسكر الشيوعي"، وكانت العوامل السياسية والاقتصادية الداخلية هي الأساس في تفجير الثورات الشعبية داخل دول هذا المعسكر، لكن رؤية نتائج هذه التغييرات كانت متباينةً في العالم. فالغرب عموماً، ودول "حلف الناتو" خصوصاً، اعتبروها فوزاً كبيراً لهم ولمصالحهم. كما وجدتها واشنطن بدايةً لعصر الانفرادية الأميركية في تقرير مصير العالم، وهو النهج الذي سارت عليه إدارة بوش السابقة. فهل استفاد أو تضرّر العرب مثلاً من هذه المتغيرات الدولية رغم أحقّية مطالب شعوب دول "المعسكر الشيوعي" بالتغيير والإصلاح؟!.

إنّ حركات التغيير العربية السائدة حالياً تحدث على أرضٍ عربية مجزّأة، حيث ينعكس ذلك على طبيعة الحكومات وظروف المعارضات، كما أنّها تجري في منطقةٍ تتحرّك فيها قوى إقليمية عديدة لها أجنداتها الخاصة وتريد أن تصبّ "تغييرات" في مصالحها، فضلاً عن حدوث هذه الانتفاضات بعد سنواتٍ أخيرة من إطلاق الغرائز الإنقسامية الطائفية والمذهبية والأثنية على امتداد الأرض العربية من محيطها الأطلسي إلى خليجها العربي. وقد يكون الأهم في ظروف هذه الانتفاضات وما يحيط بها من مناخ هو وجود إسرائيل نفسها ودورها الشغّال في دول المنطقة (منذ تأسيس إسرائيل) من أجل إشعال الفتن الداخلية وتحطيم الكيانات القائمة لصالح مشروع الدويلات الدينية والأثنية.

فكم هو ساذجٌ من يعتقد أنّ إسرائيل تقف الآن متفرجةً على ما يحدث في جوارها العربي أو أنّها دولة حريصة على "عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول العربية" في حين أنّ دول حلف الناتو تمارس عسكرياً هذا التدخّل!.

كل المنطقة العربية بحاجةٍ فعلاً لإصلاحاتٍ دستورية واقتصادية واجتماعية. كل المنطقة بحاجةٍ إلى العدل السياسي والاجتماعي. كل المنطقة بحاجة إلى المشاركة الشعبية الفعّالة والسليمة في الحكم وقرارته. لكنّ هذا كلّه يحدث وسيحدث على أرضٍ غير مستقرّة ولا هي موحّدة ولا متحررة من أشكال مختلفة من الهيمنة الأجنبية والتدخّل الإقليمي. وهذا الأمر يعيدنا إلى مسؤولية قوى التغيير والمعارضات العربية ومقدار تنّبهها ألا تكون وسيلةً لخدمة أهداف ومصالح غير أهداف ومصالح شعوبها. هنا كانت المشكلة أصلاً في السابق حينما عجزت هذه القوى عن البناء السليم لنفسها: فكراً وأسلوباً وقيادات، فساهمت عن قصدٍ أو غير قصد في خدمة الحكومات والحكّام الظالمين الفاسدين وأطالت بأعمار حكمهم، ممّا جعل شرارت التغيير تبدأ من خارج هذه القوى، ومن شبابٍ عربي يحتاج أصلاً إلى الرعاية الفكرية والسياسية السليمة بعدما قام هو نفسه بأسلوب تغييرٍ سليم.

إنّ حركات التغيير السائدة الآن عربياً يمكن توزيعها إلى ثلاث مجموعات؛ أوّلها مفرح، ومثاله تونس ومصر، وبعضها مقلق، كما هو في اليمن وليبيا وسوريا، وآخرها محزن كما هو في البحرين حيث تحوّل الأمر إلى تصنيفاتٍ مذهبية وصراعاتٍ إقليمية كانت ضحيّتها انتفاضة البحرين ومطالب شعبها المحقّة في الإصلاح.

ولعلَّ في وجود هذه المجموعات ما يؤكّد على مخاطر السلبيات المرافقة لحركة التغيير الإيجابي النشطة حالياً. فحبّذا لو يسبق أيَّ حركة تغيير وضوحٌ في الأهداف وبرامج العمل وهوية البدائل وطبيعتها، فربّما يشكل ذلك حدّاً أدنى من الاطمئنان ولا يُترَك مسار الأمور كحال من يصطاد في البحر ويجهل ما ستحويه شبكته بعد حين. فحال جوع الصياد وحده ليس هو المعيار.

حتى الآن لم تتّضح كثيراً ماهية "الأفكار" ولا طبيعة "القيادات" التي تقف خلف "أساليب" بعض الإنتفاضات العربية. ولا يجوز طبعاً أن تكون "الأساليب" السليمة هي لخدمة أفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة تسرق التضحيات والإنجازات الكبرى وتُعيد تكرار ما حدث في السابق في المنطقة العربية من تغييرات كانت تحدث من خلال بعض الانقلابات العسكرية أو الميليشيات المسلحة ثم تتحوّل إلى أسوأ ممّا كان قبلها من واقع.

إنّ الديمقراطية السليمة والعدل السياسي والاجتماعي مطلوبان فعلاً في دول المنطقة، بل في أنحاء العالم كلّه، والحاجة ماسّة لهما كذلك في مجال العلاقات بين الدول، وفي ضرورة احترام خيارات الشعوب لصيغ الحياة الدستورية فيها، وفي عدم تدخّل أيّة دولة (كبرى أو صغرى) في شؤون الدول الأخرى.

إنّ الديمقراطية هي وجهٌ من وجهي الحرّية، وهي صيغة حكم مطلوبة في التعامل بين أبناء البلد الواحد، لكنّها ليست بديلة عن وجه الحرّية الآخر، أي حرّية الوطن وأرضه من كل هيمنة خارجية.

للأسف، فإنّ الواقع العربي لا نجد فيه التوازن السليم المطلوب بين شعارات: الديمقراطية والعدالة والتحرّر والوحدة الوطنية ومسألة الهوية العربية. فمعيار التغيير الإيجابي المطلوب في عموم المنطقة العربية هو مدى تحقيق هذه الشعارات معاً.

إنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون الآن إلى حركة شعبية عربية تتّصف بالديمقراطية والتحرّر الوطني والعروبة. حركة تستند إلى توازن سليم في الفكر والممارسة بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والهوية العربية، حركة شعبية تجمع ولا تفرّق داخل الوطن الواحد، وبين جميع أبناء الأمَّة العربية..

28-3-2011

=====================================================================
السؤال المحيّر عن موقف أميركا من الثورات العربية

 

 

سؤالٌ يتكرّر الآن كثيراً: ما هي المصلحة الأميركية فيما يحصل من ثورات وحركات تغيير عربية؟ وهل دور الإدارة الأميركية مؤثّرٌ فعلاً في مصير هذه الثورات؟

ما فرَض طرح هذا السؤال هو الموقف الأميركي من ثورة 25 يناير في مصر حيث كان لإدارة أوباما رأي واضح في دعم هذه الثورة، وفي دعوة حسني مبارك للاستقالة من منصبه. وقد تكرّر هذا الموقف الأميركي أيضاً مع الثورة الشعبية الليبية التي ما زالت تتفاعل ضدّ حكم العقيد معمر القذافي.

فئةٌ قليلة من المحلّلين السياسيين العرب والدوليين أعطت إدارة أوباما أكثر مما تستحقّ من فضل في حدوث هذه الثورات وفي إنجازاتها. لكن رغم قلّة أصحاب هذا الرأي، فمن المهمّ القول أنّ هذه الثورات والانتفاضات العربية الراهنة هي صناعةٌ محلّيةٌ خالصة، وليست بمستوردةٍ من أميركا أو من غيرها. هي نابعة من شعوب المنطقة ومعاناتها لعقود طويلة مع أنظمة فاسدة مستبدّة في الداخل وغير وطنية في سياساتها الخارجية. هي أنظمة عاشت أصلاً على الدعم الخارجي لها فاستقوت على شعوبها ونهبت ثروات أوطانها. ولعلّ في سيرة ثورة تونس ما يؤكّد هذه الخلاصة، حيث صمتت واشنطن وعواصم العالم لأكثر من ثلاثة أسابيع عمّا كان يحدث في تونس من ثورة وعنف دموي ضدّها إلى حين حدوث بشائر سقوط نظام بن علي. فأدركت واشنطن وغيرها أنّ شعلة ثورة تونس ستمتدّ إلى عموم المنطقة العربية بما حملته من نموذج رائع في أسلوبها وبما حقّقته من إنجاز كبير على نظامٍ له شقائق طغيان في أكثر من بلد عربي. فهكذا بدأت ثورة مصر مستفيدةً من تجربة تونس، ومضيفةً إليها أبعاداً هامّة في الأسلوب وفي النتائج، بحكم موقع مصر وثقلها البشري والحضاري ودورها التاريخي الريادي.

الولايات المتحدة الأميركية ليست جمعيةً خيرية دولية مهتمّة بحقوق الإنسان في العالم، وهي ليست منظمة دولية لدعم حركات التغيير ونصرة حقوق الشعوب المقهورة. أميركا هي دولة عظمى تبحث كغيرها من الدول الكبرى عن مصالحها وعن ضمانات استمرار هذه المصالح في هذا المكان أو ذاك من العالم، وبغضّ النّظر عن أشخاص الحاكمين في أيِّ دولةٍ تدعمها واشنطن.

إذن، معيار المصلحة الأميركية هو المحرّك الآن للمواقف الأميركية من حركات التغيير العربية، تماماً كما كان هذا المعيار وراء موقف الرئيس الأميركي السابق أيزنهاور خلال العدوان الثلاثي البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي عام 1956 على مصر، حينما وقفت أميركا ضدّ هذا العدوان وساندت وقفة الشعب المصري في حرب السويس.

ولقد استفادت إدارة أوباما من دروس تجربة إدارة بوش وإخفاقاتها وخطاياها، خاصّةً لجهة استخدام الإدارة السابقة للقوة العسكرية الأميركية من أجل إحداث تحوّلات سياسية في الشرق الأوسط أو لتغيير أنظمة، كما حدث في أفغانستان وفي العراق. وهي "استفادة أوبامية" بالاضّطرار وليس بالاختيار، فأميركا لا تستطيع الآن الدخول في حروبٍ جديدة بل هي تحاول الخروج من حروبها في العراق وأفغانستان. وقد عبّر وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس عن هذا التوجّه الأميركي الجديد حينما قال "إنّ أي وزير دفاع أميركي يأتي بعده عليه أن يفحص عقله قبل الإقدام على إدخال أميركا في حرب جديدة في الشرق الأوسط أو آسيا".

أيضاً، من المهمّ التوقّف عند ما نشرته "نيويورك تايمز" من مقال لمارك لاندلر كشف فيه عن وجود "تقرير سري" طلب الرئيس أوباما إعداده في شهر أغسطس/آب الماضي عن أوجه الاضطراب في العالم العربي، حيث خلص التقرير إلى أنّه "بدون إجراء تغييرات سياسية كاسحة، فإن الأوضاع في عدّة بلدان عربية تسير نحو ثورات شعبية كبيرة". وكانت مصر أبرز هذه البلدان المحتمل تفجّر الأوضاع فيها. وقد حثّ التقرير على "إعداد مقترحات حول كيفية تعامل الإدارة مع هذه التغييرات السياسية المحتملة ضدَّ حكّامٍ شموليين هم أيضاً حلفاء مهمّون لأميركا". وطالب التقرير أيضاً بدراسة "كيفية الموازنة بين المصالح الإستراتيجية الأميركية والرغبة في تجنّب فوضى واسعة وبين المطالب الديمقراطية لشعوب هذه البلدان".

لقد كان المشروع الأميركي للمنطقة خلال حقبة بوش و"المحافظين الجدد" يقوم على فرض حروب و"فوضى خلاّقة" و"شرق أوسطي جديد" وفي الدعوة لديمقراطيات "فيدرالية" تُقسّم الواطن الواحد ثم تعيد تركيبته على شكل "فيدرالي" يحفظ حال التقسيم والضعف للوطن ويضمن استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواته ومقدّراته وقرارته. وكانت نماذج هذا المشروع في العراق وفي السودان معاً. الآن نجد إدارة أميركية تعمل على تحقيق المصالح الأميركية من خلال دعوة الحكومات العربية (والضغط عليها) لتحقيق إصلاحات دستورية واقتصادية تحفظ استمراريتها وتضمن أيضاً في هذه البلدان بقاء المصالح الأميركية، إذ لا يهمّ الحاكم الأميركي إلا المصالح الأميركية، فهو قد يكون مع تغيير أشخاص وحكومات في بلدٍ ما ولا يكون كذلك في بلدان أخرى. الأمر يتوقّف طبعاً على "ظروف" هذا البلد ونوع العلاقة الأميركية مع المؤسسات القائمة فيه بما فيها المؤسسة العسكرية، لكن الاعتبار الأميركي الأهم هو "نوع" البدائل الممكنة لهذا النظام أو ذاك.

إنّ إدارة أوباما لا تصنع الآن ثورات المنطقة، فهذه ثورات وطنية ذات إرادة حرّة، لكن الإدارة الأميركية تحاول استثمار ما يحدث، كما تحاول أطراف دولية وإقليمية عديدة، من أجل تحقيق مصالحها في منطقة إستراتيجية الموقع، غنية الثروات، منطقةٌ هي الآن محور الاهتمام الدولي وفيها الوجود الإسرائيلي وامتدادات نفوذه وتأثيراته الدولية حتّى على صُنّاع القرار في "البيت الأبيض". وكما كان التأثير الإسرائيلي كبيراً في مواقف إدارة بوش تجاه العراق والسودان، ستعمل إسرائيل أيضاً على تحويل الثورات الشعبية العربية إلى مناطق حروب أهلية وعلى دفع المنطقة كلّها لحال التدويل، إنْ أمكنها ذلك.

لكن الأساس يبقى فيما هو عليه الشارع العربي من توحّد وتميّز مقدار وعيه السياسي لمصالح وطنه وشعبه. فالرؤى الأميركية والدولية والإسرائيلية هي مجرّد مشاريع إلى أن تجد من يتعهّد تنفيذها من حكومات أو جماعات معارضة، فحينها يُصبح هذا "المتعهّد العربي" هو مصدر الخطر على الوطن وعلى حركات التغيير فيه.

إنَّ العرب يريدون لأمَّتهم ما أراده الأميركيون للأمَّة الأميركية عند إعلان استقلال أميركا عن هيمنة التاج البريطاني، وهذا يعني حقّ التحرّر الوطني وحقّ المقاومة ضدَّ الاحتلال.

العرب يريدون لأمَّتهم حقّ اختيار البناء الدستوري السليم المتلائم مع طبيعة الأمَّة العربية وحضارتها، والذي يكفل أيضاً حرّيات المواطنين والمساواة فيما بينهم، وحقوقهم جميعاً في المشاركة بصنع القرار الوطني دون أيِّ تمييز.

العرب يريدون لأمَّتهم تكاملاً بين أوطان الأمَّة الواحدة وتطويرَ صيغ العمل العربي المشترك، ويريدون في أمَّتهم حقَّ رفض أيّة دعواتٍ انفصالية أو تقسيمية في كلِّ بلدٍ عربي، وتثبيت وحدة الكيانات ووحدة الأوطان ووحدة المواطنين.

لقد كانت هذه هي خلاصات التجربة التاريخية الأميركية في مجالات التحرّر والبناء الدستوري والتكامل الاتحادي، وفي رفض الحالات الانفصالية، فلِمَ لا تدعو الآن واشنطن العربَ بل العالمَ كلّه للأخذ بهذه الخلاصات عوضاً عن ممارستها أحياناً عكس ذلك؟!.

 

7-3-2011

=====================================================================
التغيير لن يكون سهلاً.. والنتائج لن تكون سريعة

 

تساؤلات عديدة ترافق الآن حركات التغيير والثورات الحاصلة في المنطقة العربية. فصحيح أنّ هذه الحركات الشعبية الساعية للتغيير هي كلّها نابعةٌ من إرادات وطنية محلية، وهادفةٌ إلى تحقيق إصلاحات دستورية واقتصادية واجتماعية تحتاجها فعلاً بلدان هذه الثورات، لكن ما هو غير واضح حتّى الآن مدى التغييرات التي ستحدث في هذه المجتمعات، وهل ستقتصر على تغيير في الأشخاص وصيغ الحكم أم ستشمل التحالفات والسياسات الخارجية، ثمّ ما صورة البديل المنشود عن الحكم المرفوض!.

أيضاً، من القضايا المثيرة للانتباه الآن عدم وجود وضوح في هويّة القوى التي تقوم بعمليات التغيير وقيادة الثورات الشعبية. فالثورات هي جسر وممر، وليست مستقرّاً للشعوب. هي وسيلة انتقال من ضفّة لأخرى، والناس جميعاً يعرفون الضفّة السائدة أو التي يُثار عليها لكن ما زالت ملامح الضفة الأخرى، رغم الحديث عن لونها الديمقراطي المنشود، غامضة.

فمن المسائل التي ترتبط في مرحلة ما بعد الثورات، تبرز قضية السياسة الخارجية كمحور هام لأيِّ بلدٍ عربي، إذ يتوجّب على المتغيرات الجارية في المنطقة العربية أن تتعامل مع الصراع العربي/الصهيوني وتفرّعاته التي فرضت مثلاً التطبيع مع إسرائيل على دول بعيدة عن أرض الصراع كموريتانيا وبعض دول الخليج العربي. وفي هذا الصراع أيضاً جوانب ثقافية واقتصادية إضافةً إلى وجود محاور إقليمية تفرض نفسها حتماً على أي بلد عربي يعيش الآن حالة ثورة وتغيير داخلي.

المسألة الديمقراطية على أهمّيتها غير منعزلة أيضأ عن الموقف من محاولات الهيمنة الأجنبية على بلدان المنطقة وثرواتها، وعمَّا هو موجود من قواعد عسكرية أجنبية ومن صراعات دولية وإقليمية على أرض العرب.

كذلك، نجد من المسائل الغامضة الآن بعد التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، قضية العلاقات العربية/العربية، وما يرتبط بصيغ التعاون العربي المنشود، والذي به تصون الأوطان العربية نفسها من التدخّلات الخارجية. فالتأكيد على الهويّة العربية لأوطان المنطقة وشعوبها هو سياج أمنٍ خارجي كما هو أيضاً حاجةٌ داخلية ترتبط بوحدة المصالح وبأهمّية التكامل بين بلدان المنطقة.

وستطمئنّ الأمَّة العربية لكلِّ تغيير يحدث الآن فيها إذا كانت سماته المشتركة هي الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية. فلا ينفصل نجاح واحدة من هذه السمات عن الحاجة للنجاح أيضاً في السمات الأخرى.

التغيير الشامل والكامل لن يكون سهلاً في أيِّ بلدٍ عربي، لكن من المهمّ أن يكون شاملاً للأشخاص وصيغ الحكم والسياسات، وأن يكون كاملاً في كلِّ مجال فلا يكتفي بأشكال التغيير بل يكون محقّقاً فعلاً لما تطمح اليه الشعوب من عدل سياسي واجتماعي، ومن ضمانات لحرّية الوطن والمواطن معاً، ومن بناء دستوري يحقّق المشاركة الشعبية في الحكم ويساوي بين جميع المواطنين ويصون وحدة الأرض والشعب.

إنّ المنطقة العربية تشهد الآن ظاهرة "الثورات الديمقراطية" بمعزل عن أيّة قضية أخرى، حتّى بمعزل عن حرّية بعض الأوطان من الهيمنة الأجنبية.

ومن الطبيعي أن يتحرّك الشارع العربي للمطالبة بأوضاع أفضل ومن أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، لكن المشكلة أنّ بعض الحركات السياسية المشاركة في الثورات الشعبية تحتاج هي نفسها إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف..

أيضاً، فإنّ الواقع العربي الراهن تختلط فيه مفاهيم كثيرة لم تُحسَم بعدُ فكرياً أو سياسياً. وهذه المفاهيم هي أساس مهم في الحركة والتنظيم والأساليب، كما هي في الأفكار والغايات والأهداف. فما هو الموقف من التعدّدية بمختلف أنواعها داخل المجتمع، وما هو الفاصل بين المقاومة المشروعة وبين الإرهاب المرفوض، وما هي العلاقة بين حرّية الوطن وبين حرّية المواطنين؟ وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد؟ وهل طريق الديمقراطية يمرّ في تجزئة الكيانات؟ ثمّ ما هي آفاق هذا التغيير المنشود من حيث العلاقة مع إسرائيل، وهل ستكون "الشرق أوسطية" هي الإطار الجامع لدول المنطقة مستقبلاً أم ستكون هناك خطوات جدّية نحو تكامل عربي شامل يعزّز الهويّة العربية المشتركة ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية؟

طبعاً، هو إنجاز كبير حدث ويحدث حتّى الآن في أكثر من بلد عربي. فإيقاف حال الانهيار والانحطاط والفساد السياسي والتحكّم بأرزاق الناس وبرقابها.. كلّها مكاسب كبيرة لأي شعب خضع لحكم ظالمٍ ومستبدٍّ وفاسد، لكن سؤال "ماذا بعد" هو أيضاً مسألة هامة تستوجب عدم الركون لحدوث التغيير فقط. حتماً هناك مسافة زمنية مطلوبة لتحقيق البناء. فهدم الموجود هو دائماً أسهل بكثير من بناء المرغوب، فلا ينتظرنَّ أحدٌ نتائج سريعة من أي تغيير حدث، لكنْ أيضاً يجب ألا يُكتَفى حصراً بما حدث. هي ثوراتٌ وحركات تغيير حديثة الولادة ولم تنضج بعد، لكنّها بحاجة لرعاية أهلها حتى تبلغ رشدها.

لقد توفّرت في هذه الثورات لغاية الآن عوامل إيجابية كثيرة: الإرادة والعزم على إحداث التغيير مهما كانت التضحيات، الشجاعة في الصمود والمواجهة مع حالات العنف السلطوي، الحرص على سلمية التحرك، عدم الشعارات الفئوية التي تُنفر الآخرين من قطاعات الشعب المتعدّدة، والدور الفاعل للجيل الجديد في عمليات التواصل التقني من أجل التعبئة الشعبية للتحرّك. لكن هذه الإيجابيات لا تمنع وجودَ مخاوف من سلبيات قائمة أصلاً في بعض المجتعات العربية التي فيها انقسامات طائفية ومذهبية أو أيضاً نوازع إنفصالية كما هو الحال في جنوب اليمن. فالمطلوب دستورياً هو ديمقراطية تحقّق فصل السلطات وليس فصل الكيانات.

إنّ الحرّية، بمعناها الشامل، كانت وستبقى، ركناً مهمّاً في كلّ الرسالات السماوية، والقيم الإنسانية العامة. الحرّية تبقى عاجزةً وناقصة إذا لم تترابط فيها مسألة التحرّر من سيطرة الخارج مع مسألة التحرّر من الاستبداد الداخلي. الحرّية، التي هي كالطير، بحاجة إلى تكامل جناحي الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، كي تستطيع التحليق عالياً. الحرّية هي القضية الملازمة لوجود الإنسان أينما وُجد ومنذ بدء الحياة الإنسانية على الأرض. الحرّية هي التي ترتبط بحقّ الاختيار، وبالتالي، الارتباط مع ميزة الإنسان بأنّه صاحب إرادة ومشيئة لعمل شيء ما أو عكسه.

كذلك، فإنّ التعامل مع المسألة الديمقراطية في المنطقة العربية لا يمكن أن يتمّ بمعزل عن تحدّيات الوجود الإسرائيلي وأطماعه السياسية والاقتصادية، وتحدّيات الإرادة الأجنبية في فرض التجزئة والتخلّف منذ عشرات السنين على الأمّة العربية.

إنّ الديمقراطية السياسية والتكامل الاتحادي وجهان لمشروع عربيّ واحد لمستقبل أفضل، وعماد هذا المشروع هو مفهوم الحرّية الشامل للمواطن العربي وللأوطان العربية، للإنسان وللأرض معاً.

 

21/2/2011


 

 =====================================================================

ماهيَّة هذه المرحلة.. وإلى أين مصريّاًً؟

 

الشرارة كانت في تونس، لكن شعلة النور الوهّاج حملها عالياً شباب مصر. هذه المرّة، ستعمّ من القاهرة أشعّة النور على أرجاء المنطقة العربية، لا ألسنة اللهب الحارقة، كما حدث يوم دخل أنور السادات القدس المحتلة فأخرج مصر من أمِّتها العربية وبدأ عندها عصرٌ من الانحطاط والتبعية والفساد والحروب الأهلية والاستباحة الأجنبية للأرض العربية.

اليوم، عادت القاهرة لشعبها، بعد أن استولى عليها لأكثر من ثلاثين عاماً حفنةٌ من الفاسدين. وشعب مصر لا يمكن أن يقبل بتقزيم دور وطنه الرائد والطليعي عبر تاريخ المنطقة كلّه. فتصحيح مسار الحياة السياسية الداخلية سينعكس حتماً على كلّ المسارات الأخرى لمصر ولدوائر الانتماء المتعدّد لها.

فالدور المصري في المنطقة هو دائماً حاضر، لكنّه إمّا دورٌ إيجابيٌّ فاعل أو دورٌ سلبيٌّ قاتل. وما عاشته مصر والبلاد العربية في العقود الثلاثة الماضية من عصر انحطاط لا يمكن أن يستمرّ الآن حتّى في ظل المرحلة الإنتقالية الدستورية التي تمرّ بها مصر حالياً. الأمل طبعاً أن تُسفِر الانتخابات الحرّة القادمة عن غالبية تعيد لمصر دورها الإيجابي الطليعي في أمّتها العربية.

هي مرحلةٌ انتقالية الآن في مصر. فتغيير "الأشخاص" في الحكم احتاج لأسابيع، وتغيير النظام سيحتاج إلى أشهر، لكن تغيير السياسات عمومأ سيحتاج إلى بضع سنين. فلا نستعجل هذا التغيير ولا نيأس من عدم حصوله.

ثورة "25 يناير" حقّقت حتّى الآن، وبغضّ النظر عن مراحل المستقبل، إنجازاتٍ عظيمة لمصر وللأمَّة العربية. فهي مع "توأمها" التونسي كسرا حاجز الخوف الذي ساد لعقود لدى شعوب المنطقة (باستثناء ظواهر المقاومة ضدَّ الاحتلال) نتيجة ممارسات الاستبداد الداخلي. والثورتان التونسية والمصرية أكّدتا حيويّة الشارع العربي وبأنَّ الشعوب العربية ليست جثثاً هامدة كما كان يزعم البعض، وأعادت هاتان الثورتان الأمل بإمكانية بناء مستقبل عربي أفضل، فأوقفتا بالتالي حالة السلبية واليأس والإحباط التي عشعشت في خلايا التفكير العربي.

العرب الآن بنظر الشعوب الأخرى هم قوّة تغيير ديمقراطي سلمي وليسوا "جماعات إرهاب وعنف"، بينما تدافع إسرائيل، التي كانت تدّعي أنّها "الحالة الديمقراطية" الوحيدة في المنطقة، عن حكم الفساد والاستبداد.

يكفي فخراً لثورة مصر أنّها أوقفت حالة الانحدار الانقسامي الشعبي الذي ساد في الفترة الأخيرة والذي برزت في ظلامه الدامس خفافيش الصراعات الطائفية بين الشعب الواحد، فإذا بهذه الثورة تُصحّح  هذا الصراع المصطَنع لتعيده إلى طبيعته بأنّه صراع سياسي واجتماعي بين ظالمٍ حاكم ومحكومٍ مظلوم.

الطلائع الشبابية الثورية في مصر أحدثت تغييراً هاماً يتّجه نحو بناء مجتمع ديمقراطي حر تتنافس فيه كل الاتجاهات الفكرية والسياسية، في ظلّ ضماناتٍ بفصل السلطات وتوفير كل الحريات العامة وتأكيد المرجعية الشعبية للحكومات والسلطات والبناء الدستوري. وستحاول قوًى كثيرة داخل مصر وخارجها أن "تستوعب" هذه الثورة وإنجازاتها أو أن تجعلها كزهرة جميلة مصطنعة لكن لا جذور وطنية مصرية وعربية لها. ستحاول هذه القوى توصيف هذه الثورة وكأنّها ثورةٌ على ماضي مصر الوطني والعربي حتى تبقى السياسة الخارجية لمصر كما كانت في العهد الساداتي/المباركي، وتنحصر إنجازات الثورة ببعض الإصلاحات الدستورية والاقتصادية فقط. هذا هو مثلاً طموح حكومات دول الغرب، وفي مقدّمتها الإدارة الأميركية، من التغيير الذي حدث في مصر وقبلها في تونس. فهذه الحكومات لا يهمّها طبعاً من الشخص الحاكم في أيّ بلد، أو مدى استبداده وظلمه لشعبه، فالمهمّ عندها هو معيار مصالحها واستمرار نفوذها وهيمنتها على هذه البلدان.

فالحرص على المصالح الأميركية في مصر وفي المنطقة هو الذي تطلّب إنقاذ النظام المصري من نفسه من خلال إنقاذه بتغيير رأسه.

هي الآن لحظةٌ زمنية شبيهة بما حدث في العام 1956، حينما اشتركت المصلحة الأميركية في وراثة النفوذ البريطاني والفرنسي بالمنطقة مع هدف التحرّر الوطني المصري الذي كان يقوده جمال عبد الناصر، فقد وقف آنذاك الرئيس الأميركي الجنرال أيزنهاور ضدّ العدوان الثلاثي البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر بعد تأميم قناة السويس.

كانت واشنطن تراهن آنذاك على "استيعاب" الثورة المصرية التي قامت في العام 1952 وتأمل أن يكون موقفها المساند للقاهرة في العام 1956 مدخلاً لتبعيّة مصرية لها في حقبة الحرب الباردة مع المعسكر السوفييتي، لكن اتجاهات الريح سارت بغير ما اشتهت واشنطن.

حتماً، ستأخذ القضايا الداخلية المصرية الآن حيّزاً كبيراً من الاهتمام والوقت، لكن بمقدار ما ستحقّقه مصر من بناء ديمقراطية سليمة بقدر ما ستتحرّر من أي قيد أو تدخّل خارجي وأجنبي. فالديمقراطية السليمة ستفرز حتماً سياسةً خارجية سليمة، تماماً كما يحدث الآن مع التجربة الديمقراطية في تركيا والتي رغم عضويتها في حلف الناتو ورغم علاقاتها الأمنية والسياسية الخاصة مع واشنطن وتل أبيب، تُمارس سياسةً خارجية مستقلة تعتمد المصلحة التركية كمعيار لموقفها، وهذا ما ظهر في فترة التحضير للحرب على العراق ثمّ في الموقف من حصار غزة والحرب عليها، وكما هو أيضاً الموقف التركي من إيران وسوريا.

لكن أخطر ما تشهده الساحة السياسية المصرية الآن من طروحات هو التوصيف الذي يعطيه البعض للثورة الحالية بأنها "ثورة على الاستبداد الذي بدأ في العام 1952". فهذا التوصيف يستهدف قلع زهرة "ثورة يناير" من ترابها الوطني، ووضعها في "إناء أميركي" جميل يرويها لبعض الوقت لتوظيفها في "الزينة السياسية"، ولإظهار مشاعر الودّ والحب، ثم ليرميها بعد أن تذبل وتموت. فما الذي يريده أصحاب هذا الوصف؟ هل هم يرغبون بعودة حكم الملك فاروق ومن زال حيّاً من عائلته؟! أم عودة حكم "النصف بالمائة" والاحتكار والإقطاع والفساد في الحياة السياسية الذي كان قائماً قبل "ثورة 23 يوليو 1952"؟! ألا يعلم هؤلاء أن ما كان لشباب مصر أن يحصلوا على التعليم العالي والشهادات الجامعية لولا "ثورة يوليو" التي كسرت احتكار التعليم العالي، بعد أن كان خاصّاً بطبقة الأغنياء، فجعلت التعليم بمختلف مراحله مجّانياً وفتحت أبواب العلم والمستقبل أمام الجميع بمن فيهم ربّما أولئك الذين ينقضّون الآن على "ثورة يوليو" تحت شعارات "الديمقراطية"، تماماً كما فعلوا هم وغيرهم في حقبة أنور السادات الذي أطلق في عهده "حرّية الفساد السياسي والاقتصادي" من أجل تبرير التحوّل الخطير الذي قام به في السياسة الخارجية لمصر!.

مصر الآن أمام مرحلة انتقالية نأمل فعلاً أن تصل إلى بناء ديمقراطي سليم لا تقتصر فيه الديمقراطية على حق "تعبير الشعب عن نفسه بالشكوى فقط، بل ترقى لإزالة الأسباب التي جعلته أساساً يشكو". وحينما تصبح مصر محكومةً من نفسها وبنفسها فلا خوف عندئذٍ على سياستها الخارجية. فالشعب المصري البطل رفض كل حالات التطبيع مع إسرائيل رغم التشجيع الرسمي له في حقبتيْ السادات ومبارك. وحينما يحكم هذا الشعب العظيم نفسه فإنّه يعرف من هو شقيقه أو صديقه ومن هو خصمه أو عدوه. وسيصادق من يصادقه ويعادي من يعاديه، وسيحرص على دور القاهرة وفق انتماء مصر لدوائرها المتعددة ولهويّتها العربية الواحدة.

 

 

14/2/2011 


 

=====================================================================

حالُ العرب هو من حالِ مصر

 

اليومَ تنشَدُّ ذاكرة العرب إلى مصر 23 يوليو، مصر جمال عبد الناصر، مصر الرائدة والقائدة، مصر العروبة والتحرّر والكرامة الوطنية والقومية.

فثورة 23 يوليو "المصرية" أخرجت مصر في العام 1952 من حالة العزلة التي فُرضت عليها بعد سقوط "دولة محمد علي"، ثمّ بسبب الهيمنة البريطانية والأجنبية على شؤونها السياسية ومقدراتها الاقتصادية، وبالتعاون مع شبكة مستفيدين من طبقة سياسية واجتماعية مصرية كانت تشكّل نصفاً بالمائة من عدد سكان مصر.

لقد كان ذلك هو أيضاً حال معظم البلاد العربية في منتصف القرن العشرين: فساد سياسي واجتماعي في الداخل، قائم على الاحتكار والإقطاع والاستغلال، في ظلّ هيمنةٍ أجنبية واحتلال. وتزامن هذا الواقع مع بدء التنفيذ الصهيوني والأجنبي لمشروع "دولة إسرائيل" في القلب الفاصل بين مشرق الأمّة العربية ومغربها.

فالأمّة العربية كلّها كانت تعيش هذا الحال رغم التجزئة التي حدثت لها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى واتفاقيات "سايكس بيكو" البريطانية/الفرنسية بعد أن ورثت لندن وباريس ما كان تحت هيمنة الدولة العثمانية.

ثورة 23 يوليو في مصر عام 1952 لم تكن حدثاً عادياً في بلد عربي صغير، بل كانت نموذجاً رائداً لحركة تحرّر وطني عام، ولتغيير اجتماعي وسياسي شمل المنطقة العربية، وترك آثاراً هامّة على شعوب أفريقيا وأميركا اللاتينية وعلى معظم دول "العالم الثالث" التي كانت تعيش أيضاً ظروفاً مشابهة لأوضاع البلاد العربية.

ولم يحدث هذا الاهتمام العربي والتأثّر الدولي بثورة 23 يوليو بمجرّد قيامها في العام 1952، لكنّه حدث من خلال قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس ومواجهة العدوان الثلاثي: البريطاني، الفرنسي، والإسرائيلي على مصر في العام 1956. فهذه كانت معركة الإرادة الوطنية ضدّ الهيمنة الأجنبية، ومعركة التحرّر من الاستعمار والاحتلال، وتلك آنذاك كانت قضيّة دول "العالم الثالث" كلّه.

كذلك كان تجاوب الشعوب العربية مع قيادة ثورة 23 يوليو حينما أطلق قائد الثورة جمال عبد الناصر الدعوات لتضامن الأمّة العربية ولوحدة شعوبها، ولتصحيح واقع فرضه المستعمر لكي تسهل هيمنته على ثروات ومقدّرات الأمّة العربية وعلى موقعها الجغرافي الهام.

إنّ ثورة 23 يوليو كانت "مصرية" المنطلق، لكنّها كانت "عربية" في قضاياها ومعاركها وآثارها السياسية والفكرية والاجتماعية، وهذا بحدّ ذاته كان كافياً لكي يتمّ التآمر عليها وعلى قيادتها من أجل إعادة "مصر المارد" إلى "زجاجة العزلة" عن محيطها الجغرافي، الأمر الذي حصل بعد وفاة جمال عبد الناصر وبعد معاهدات كامب ديفيد، والذي هو الآن واقعٌ مؤلم تعيشه مصر والأمّة العربية.

صحيحٌ أنّ تجربة ثورة 23 يوليو تحت قيادة ناصر كانت لمدّة 18 عاماً فقط، لكنّ هذه التجربة خاضت الكثير من المعارك، وحقّقت الكثير من الإنجازات المصرية والعربية والدولية، وهي كغيرها من الثورات والتجارب الكبرى نجحت في أمور وتعثّرت في أخرى، لكن قيمتها الأهم كانت فيما افتقده العرب خلال العقود الثلاثة الماضية من حيويّة وثقل الدور المصري في القضايا العربية الكبرى، وفي مقدّمتها قضيّة الصراع العربي/الصهيوني.

فمصر عبد الناصر رفضت، رغم هزيمة العام 1967، استعادة سيناء مقابل تخلّي مصر عن دورها العربي في الصراع مع إسرائيل. وخاضت مصر عبد الناصر "حرب الاستنزاف" على جبهة قناة السويس لمدّة عامين، وهيّأت الجيش المصري لمعركة العبور التي حدثت في العام 1973، وحقّقت تضامناً عربياً فاعلاً على قاعدة قرارات قمّة الخرطوم في العام 1967، ممّا أدّى إلى تماسك الأمّة العربية وانتصارها العسكري في حرب أكتوبر 1973.

كان ناصر يردّد "القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء"، و"لا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ما لم تتحرّر كلّ الأراضي العربية المحتلّة عام 1967، وما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة".

لقد حرص جمال عبد الناصر، كردٍّ على هزيمة عام 1967، على أن يوقف أيّة صراعات عربية/عربية وعلى أن يبني تضامناً عربياً فعالاً، فسحَب القوات المصرية من اليمن، وصالح كلَّ من عاداه من العرب، وأكّد على أهميّة إعطاء الأولويّة الكاملة للصراع مع إسرائيل، وبأنّ هذا الصراع يقتضي بناء تضامنٍ عربيٍّ فعّال يضع الخطوط الحمراء من جهة (كمجموعة لاءات قمة الخرطوم) حتى لا ينزلق أيّ طرفٍ عربي في اتفاقيات منفردة، ويوقف كلّ الصراعات العربية/العربية والمعارك الهامشية داخل المجتمع العربي.

فأين كان دور مصر خلال الثلاثين سنة الماضية من ذلك كلّه، وأين كانت الأمّة العربية معها؟.

لقد حدث الانقلاب على دور مصر التاريخي يوم جرت معاهدة السلام مع إسرائيل واتفاقيات كامب ديفيد فكان ذلك بداية عصر الانحطاط العربي المعاصر، وما جرى فيه من حروب أهلية عربية وصراعات على الحدود بين العرب، رافقها تسويات وتطبيع مع إسرائيل وتعزيز للتواجد العسكري الأجنبي في المنطقة.

اجتاحت إسرائيل معظم لبنان عام 1982 واحتلّت أوَّل عاصمة عربية بيروت، ثم دمّرت بعد ذلك الكثير في لبنان وفلسطين وقتلت الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين في أكثر من حرب وعدوان طيلة الثلاثين سنة الماضية، ولم يدفع ذلك كلّه أو أيٌّ منه مصر كامب ديفيد حتّى إلى إلغاء العلاقات مع إسرائيل!!

في ظلِّ قيادة مصر 23 يوليو، كانت المنطقة العربية تشهد تحرّراً من استعمار بريطاني وفرنسي امتدَّ من عدن إلى الجزائر، بينما حقبة "كامب ديفيد" وما بعدها استعادت الهيمنة الأجنبية بمختلف أشكالها.

في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي كانت الانقسامات والصراعات في المنطقة العربية تدور حول الأفكار والسياسات، أمّا ما بعد ذلك فقد تحوّلت إلى صراعاتٍ وانقسامات على معايير طائفية ومذهبية وأثنية تعيشها المنطقة العربية بأسرها دون مرجعية سليمة واحدة للأمّة.

***

هذه هي أسباب انشداد كلّ العرب إلى ما يحدث في مصر الآن. ففي مصر كانت بداية الانهيار العربي المتواصل منذ زيارة السادات لإسرائيل، ومن مصر ستكون بداية النهضة العربية المنشودة.

شباب مصر يثورون لتغيير أوضاع دستورية واجتماعية مصرية، لكن في ذلك أمل كبير لكلِّ العرب بتغيير واقعهم أيضاً.

فلقد تحطّم جدار الخوف النفسي الذي كان يفصل بين المواطن وحقوقه في الوطن، وجرى إعادة الاعتبار لدور الناس في عمليات التغيير المطلوبة بالمجتمعات بعد أن كانت حكراً في السابق إمّا على المؤسسات العسكرية أو بالمراهنة على التدخّل الخارجي.

إنّ أهمّية ما يحدث الآن هو إحياء الأمل لدى عامّة العرب بإمكان التغيير وبعدم الاستسلام لليأس القاتل لإرادة وأحلام الشعوب بمستقبل أفضل.

إنّ العرب اليوم يستذكرون مصر 23 يوليو، مصر جمال عبد الناصر، مصر الرائدة والقائدة، مصر العروبة والتحرّر والكرامة الوطنية والقومية، وهم كلهم أمل أن تعود مصر إلى موقعها الطبيعي ودورها الطليعي الإيجابي في الأمة العربية وقضاياها العادلة.

 

 7 شباط/فبراير 2011

 

=====================================================================
شباب مصر.. و"ثورة 23 يوليو"

توفّر الأسلوب السليم لحركات التغيير الشبابية يعزّز الحاجة لضمانات فكرية ومؤسساتية

 تحقّق الأهداف وتمنع التشويه والانحراف والإستغلال.

 

تشهد مصر الآن تحوّلاً سياسياً تاريخياً لم تشهده منذ حدوث ثورة "23 يوليو" في العام 1952. ولعلّ من المهمّ جداً لشباب مصر اليوم الاستفادة من الخلاصات الفكرية والسياسية التي وصلت اليها "ثورة يوليو" قبل انحراف مسار هذه الثورة بعد وفاة قائدها جمال عبد الناصر.

فالقيادة الناصرية لثورة 23 يوليو طرحت مجموعة أهدافٍ فكرية عامّة وعدداً من الغايات الاستراتيجية المحدّدة، إضافةً إلى جملة مبادئ حول أساليب العمل الممكنة لخدمة هذه الغايات الاستراتيجية والأهداف الفكرية العامّة.

وقد ظهرت هذه الأمور الفكرية والاستراتيجية في أكثر من فترة خلال مراحل تطوّر الثورة، لكن نضوجها وتكاملها ظهر واضحاً في السنوات الثلاث الأخيرة من حياة عبد الناصر، أي ما بين عامي 1967 و1970.

فاستناداً إلى مجموعة خطب عبد الناصر، وإلى نصوص "الميثاق الوطني" و"تقرير الميثاق" اللذين صدرا في العام 1962، يمكن تلخيص الأبعاد الفكرية لثورة "23 يوليو" الناصرية بما يلي:

o                   رفض العنف الدموي كوسيلةٍ للتغيير الاجتماعي والسياسي في الوطن أو للعمل الوحدوي العربي.

o                   الدعوة إلى الحرّية، بمفهومها الشامل لحرّية الوطن ولحرّية المواطن، وبأنّ المواطنة الحرّة لا تتحقّق في بلدٍ مستعبَد أو محتَل أو مسيطَر عليه من الخارج. كذلك، فإنّ التحرّر من الاحتلال لا يكفي دون ضمانات الحرّية للمواطن، وهي تكون على وجهين: الوجه السياسي: الذي يتطلّب بناء مجتمعٍ ديمقراطي سليم تتحقّق فيه المشاركة الشعبية الحقيقية في الحكم، وتتوفّر فيه حرّية الفكر والمعتقد والتعبير، وتسود فيه الرقابة الشعبية وسلطة القضاء. أمّا الوجه الاجتماعي: فيتطلّب بناء عدالةٍ اجتماعيةٍ تقوم على تعزيز الإنتاج الوطني ودور القطاع العام وتوفير فرص العمل وكسر احتكار التعليم والاقتصاد والتجارة.

o                   المساواة بين جميع المواطنين بغضّ النظر عن خصوصياتهم الدينية أو العرقية، والعمل لتعزيز الوحدة الوطنية الشعبية التي ينهار بلا وجودها المجتمع ولا تتحقّق الحرية السياسية أو العدالة الاجتماعية أو التحرّر من الهيمنة الخارجية.

o                   اعتماد سياسة عدم الانحياز لأيٍّ من القوى الكبرى ورفض الارتباط بأحلافٍ عسكرية أو سياسية تقيّد الوطن ولا تحميه، تنزع إرادته الوطنية المستقلّة ولا تحقّق أمنه الوطني.

 

o                   مفهوم الانتماء المتعدّد للوطن ضمن الهويّة الواحدة له. فمصر تنتمي إلى دوائرَ أفريقية وإسلامية ومتوسطيّة، لكنَّ مصر - مثلها مثل أيّ بلدٍ عربيٍّ آخر- ذات هويّة عربية واحدة وتشترك في الانتماء مع سائر البلاد العربية الأخرى إلى أمّةٍ عربيةٍ ذات ثقافةٍ واحدة ومضمونٍ حضاريٍّ مشترك.

o                   الاستناد إلى العمق الحضاري الديني لمصر وللأمّة العربية انطلاقاً من الإيمان بالله ورسله ورسالاته السماوية، والتأكيد على أهمّية دور الدين في بناء مجتمعٍ قائم على القيم والمبادئ الروحية والأخلاقية، لكن مع عدم زجّ المسألة الدينية في اختيار الحكومات والحاكمين ومهام الدولة وسلطاتها.

o                   إنّ الطريق إلى التكامل العربي أو الاتحاد بين البلدان العربية لا يتحقّق من خلال الفرض أو القوّة بل (كما قال ناصر) "إنّ الإجماع العربي في كلّ بلدٍ عربي على الوحدة هو الطريق إلى الوحدة" .. وقال ناصر في "الميثاق الوطني" أيضاً: "طريق الوحدة هو الدعوة الجماهيرية .. ثمّ العمل السياسي من أجل تقريب يوم هذه الوحدة، ثمّ الإجماع على قبولها تتويجاً للدعوة وللعمل معاً". وقال أيضاً في الميثاق: "إنّ اشتراط الدعوة السلمية واشتراط الإجماع الشعبي ليس مجرّد تمسّك بأسلوبٍ مثالي في العمل الوطني، وإنّما هو فوق ذلك، ومعه، ضرورة لازمة للحفاظ على الوحدة الوطنية للشعوب العربية".

***

أمّا على صعيد مواجهة التحدّي الإسرائيلي، فقد وضعت قيادة "ثورة يوليو" منهاجاً عربياً ومصرياً واضحاً لهذه المواجهة، خاصّةً بعد حرب عام 67، يقوم على:

o                   بناء جبهةٍ داخليةٍ متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو عرقية ولا تلهيها معارك فئوية ثانوية عن المعركة الرئيسة ضدّ العدوّ الصهيوني، ومن خلال إعدادٍ للوطن عسكرياً واقتصادياً بشكلٍ يتناسب ومستلزمات الصراع المفتوح مع العدوّ.

o                   وضع أهدافٍ سياسيةٍ مرحلية لا تقبل التنازلات أو التفريط بحقوق الوطن والأمَّة معاً، ورفض الحلول المنفردة أو غير العادلة أو غير الشاملة لكلّ الجبهات العربية مع إسرائيل.

o                   العمل وفْقَ مقولة "ما أُخِذ بالقوّة لا يُسترّدّ بغير القوّة" وأنّ العمل في الساحات الدبلوماسية الدولية لا يجب أن يعيق الاستعدادات الكاملة لحربٍ عسكريةٍ تحرّر الأرض وتعيد الحقَّ المغتصَب.

o                   وقف الصراعات العربية/العربية، وبناء تضامنٍ عربي فعّال يضع الخطوط الحمراء لمنع انزلاق أيّ طرفٍ عربي في تسويةٍ ناقصةٍ ومنفردة، كما يؤمّن هذا التضامن العربي الدعم السياسي والمالي والعسكري اللازم في معارك المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي.

***

هذه باختصار مجموعة خلاصات فكرية وسياسية لتجربة ثورة 23 يوليو، خاصّة في حقبة نضوجها بعد حرب عام 1967.

ومصر الآن، والمنطقة العربية كلّها، بحاجة ماسّة إلى هذه الخلاصات الفكرية والمواقف الاستراتيجية لتشكّل بالنسبة لها دليلاً مهماً لحركتها الممتلئة الآن بنبض الشارع وروح الشباب وعنفوانه.

جمال عبد الناصر قال في الباب الأوّل من "الميثاق الوطني"، الذي قدّمه في أيار/مايو 1962 للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية:

"إنّ قوّة الإرادة الثورية لدى الشعب المصري تظهر في أبعادها الحقيقية الهائلة إذا ما ذكرنا أنّ هذا الشعب البطل بدأ زحفه الثوري من غير تنظيم ثوري سياسي يواجه مشاكل المعركة، كذلك فإنّ هذا الزحف الثوري بدأ من غير نظريةٍ كاملة للتغيير الثوري. إنّ إرادة الثورة في تلك الظروف الحافلة لم تكن تملك من دليلٍ للعمل غير المبادئ الستّة المشهورة".

وما قاله جمال عبد الناصر عن كيف أنّ الثورة بدأت دون "تنظيم سياسي ثوري" ودون "نظرية سياسية ثورية"، يوجِد تفسيراً لما وصلت إليه مصر والأمَّة العربية بعد وفاة جمال عبد الناصر، حيث فقدت الجماهير العربية اتصالها مع القائد بوفاته، ولم تكن هناك بعده أداة سياسية سليمة تحفظ للجماهير دورها السليم في العمل والرقابة والتغيير. أيضاً، مع غياب ناصر/القيادة، وغياب البناء السياسي السليم، أصبح سهلاً الانحراف في مصر عن المبادئ، والتنازل عن المنطلقات، والتراجع عن الأهداف.

اليوم، ونحن في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فإنّ مصر تغيّرت، والمنطقة العربية تغيّرت، والعالم بأسره شهد ويشهد في عموم المجالات متغيّراتٍ جذرية.. لكن تبقى مصر والأمَّة العربية بحاجةٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى مشروع فكري نهضوي إصلاحي، لا يقلّل من شأنه سلامة أسلوب التحرّك الراهن للشباب العربي المنتفض الآن في مصر وتونس وغيرهما.

ففي كل حركة تغيير هناك حاجة لعناصر ثلاثة متلازمة من المهم تحديدها وتوفرها معاً: القيادة، الأهداف، والأسلوب. فلا يمكن لأي غاية أو هدف أن يتحقّقا بمعزل عن هذا التّلازم بين الرّكائز الثلاث. فتوفّر الأسلوب السليم لحركات التغيير الشبابية يعزّز الحاجة لضمانات فكرية ومؤسساتية تحقّق الأهداف وتمنع التشويه والانحراف والإستغلال.

هي فرصةٌ هامّة، بل هي مسؤوليّةٌ واجبة، للجيل العربي الجديد المعاصر الآن، أن يدرس ماضي أوطانه وأمّته بموضوعيّة وتجرّد، وأن يستخلص الدروس والعبر لبناء مستقبل جديد أفضل له وللأجيال القادمة.

 

6 شباط/فبراير 2011

 

=====================================================================
مصر أمام إستحقاق التغيير

تغيير في السياسة.. أم في الأشخاص والنظام فقط

 

قيل سابقاً عن شعب مصر إنّه كنهر النيل يبقى هادئاً خامداً لكن حينما يثور فإنّه يحدث الطوفان. ما يحدث في مصر الآن هو تأكيدٌ لذلك، وهو إثبات أنّ إرادة شعب مصر لم تنم وإنّما كانت معصوبة العينين واليدين، وهاهي الآن تكسر قيودها وتحرّر نفسها من سلاسل الخوف بعدما وصلها شعاعُ نورٍ من شمس الإرادة الشعبية التي بزغت مؤخّراً في تونس.

ومهما كان هناك من ملاحظات وتساؤلات مشروعة على ما حدث في تونس وعلى ما يحدث في مصر، فإنّ هذه التطورات المهمّة الجارية الآن على أرض العرب، تحمل إيجابيات كثيرة أهمّها تحطيم جدار الخوف النفسي الذي كان يفصل بين المواطن وحقوقه في الوطن، ومن ثمّ إعادة الإعتبار لدور الناس في عمليات التغيير المطلوبة بالمجتمعات بعدما كانت في السابق حكراً إمّا على المؤسسات العسكرية أو المراهنة على التدخّل الخارجي.

أيضاً، أهمّية ما يحدث الآن هو إحياء الأمل لدى عامّة العرب بإمكان التغيير وعدم الاستسلام لليأس القاتل لأحلام الشعوب بمستقبل أفضل. وهناك إيجابية أخرى مهمّة لما نشهده الآن من حيث تراجع الطروحات الانقسامية في المجتمعات العربية، والتي سادت في الفترة الأخيرة بأشكال طائفية ومذهبية، فإذا بالتطوّرات الجارية تصحّح طبيعة هذه الانقسامات لتجعلها بين حاكم ظالم وحكومات فاسدة من جهة، وبين مواطنين ومحكومين مظلومين ينتمون لكل الطوائف والمذاهب والعقائد، من جهة أخرى.

لكن هذه المتغيّرات السياسية، التي تحدث الآن في مصر وفي المنطقة العربية، لا يمكن النظر اليها دون الالتفات أيضاً إلى استمرار "ثوابت" الصراع العربي/الإسرائيلي في محيط هذه المتغيّرات، وإلى استمرار التنافس والصراع الدولي والإقليمي على الهيمنة المنشودة على الأرض العربية وعلى ثرواتها ومواقعها الإستراتجية شرقاً وغرباً، كما لا يمكن ترقّب نتائج هذه التطورات من دون الحذر ممّا جرى حدوثه مؤخّراً من قرارٍ بسلخ جنوب السودان عن شماله، ومن إثارةٍ مفتعلة لأحداث عنفية طائفية في مصر وفي بلدان عربية أخرى.

لذلك هو أمر مهمٌّ جداً أن لا يتمّ فصل المسألة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية عن قضايا الوحدة الوطنية والتحرّر من هيمنة الخارج والتأكيد على الهويّة العربية للأوطان وللمواطنين في عموم البلاد العربية.

فالإدارات الأميركية المختلفة كانت مع الديمقراطية في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة بمقدار ما تكون هذه "الديمقراطيات" منفصلة عن قضية التحرّر الوطني وعن مسألة الهوية العربية. وستكون الإدارة الأميركية الآن مع الديمقراطية في تونس ومصر وغيرهما بمقدار بُعد هذه "الديمقراطية" عن المسّ بالسياسات الخارجية التي كانت عليها الحكومات السابقة في هذه البلدان، وبما لا يؤثّر سلباً على العلاقات التي كانت قائمة بين هذه البلدان وبين إسرائيل!.

إنّ القضايا التي تُحرّك الشارع المصري الآن، كما كانت في تونس وكما هي الآن في الأردن، تتمحور حول "الإصلاحات السياسية والاقتصادية" وقضايا الغلاء والفقر وفساد الحكم وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، وهي كلّها مسائل مرتبطة بالسياسة "الداخلية"، وهذا ما تدركه واشنطن ولا تمانع من تغييره. فما يهمّ الحاكم في واشنطن ليس من يحكم في بلدان المنطقة، بل بقاء هذه البلدان تسبح في الفلك الأميركي وبالوفاء بالالتزامات التي كانت عليها الحكومات السابقة تجاه أميركا وتجاه إسرائيل أيضاً.

من المهمّ أن لا ننسى كيف وصل الرئيس حسني مبارك للحكم. فهو قال ليل الجمعة الماضي في كلمته "أنّ الأقدار شاءت ذلك"، وهو طبعاً يقصد اغتيال الرئيس السابق أنور السادات يوم 6 أكتوبر من العام 1981، وكان حسني مبارك حينها نائباً للرئيس. وذلك ربّما يُفسّر سبب امتناع الرئيس مبارك طيلة ثلاثين عاماً عن اختيار نائبٍ له!! لكن اغتيال السادات لم يؤثّر على السياسة الخارجية المصرية ولا على المعاهدة مع إسرائيل ولا على العلاقات الخاصّة مع واشنطن!!.

إنّ موقف الولايات المتحدة تجاه بلدان المنطقة العربية الآن سيكون كما كان تجاه دول أوروبا الشرقية في مطلع التسعينات: تشجيع على التغيير الداخلي وبناء حكومات ديمقراطية شرط إقامة علاقات خاصة مع واشنطن والحلف الأطلسي. المشكلة بالنسبة لواشنطن في المنطقة العربية أنّ معظم الحكومات فيها تسير في الفلك الأميركي لكن بلا ضمانات داخلية باستمرار هذه الحكومات نتيجة مشكلتيْ الاستبداد والفساد، وهاهي واشنطن الآن، في موقفها من انتفاضة مصر، تستفيد من تجربتها مع انتفاضة تونس عندما تجاهلت لأسابيع ما كان يحدث ثم حاولت استدراك ذلك من خلال قول السفير فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية بأنّ ما حدث في تونس نموذج مهم لكل المنطقة!!.

الشباب العربي في مصر استفاد أيضاً من تجربة الشباب العربي في تونس واتّبع أساليب التحرّك نفسها وأدوات التواصل ذاتها وعدم انتظار الأحزاب والحركات السياسية من أجل المبادرة والتحرك والانتفاضة ضدّ النظام الحاكم.. كلُّ ذلك هو بالأمر الجيد والمهم، لكن الثورات وحركات التغيير ليست هدمَ ما هو موجود فقط بل هي بناءٌ لما هو مطلوب، وهذا يعني عملياً ضرورة الربط والتلازم بين الفكر والقيادة والأسلوب.

حتى الآن لم تتّضح ماهية "الأفكار" ولا طبيعة "القيادات" التي تقف خلف "الأساليب" الجيّدة التي يقوم بها الشباب العربي المنتفض في تونس ومصر وغيرهما. إذ لا يجوز أن يرضى هولاء الشباب الذين يضحّون الآن بأنفسهم أن تكون "أساليبهم" السليمة هي لخدمة أفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة تسرق تضحياتهم وإنجازاتهم الكبرى وتُعيد تكرار ما حدث في السابق في المنطقة العربية من تغييرات كانت تحدث من خلال الانقلابات العسكرية أو الميليشيات المسلحة ثم تتحوّل إلى أسوأ ممّا كان قبلها من واقع.

إنّ الديمقراطية السليمة والعدل السياسي والاجتماعي مطلوبان فعلاً في دول المنطقة، بل في أنحاء العالم كلّه، والحاجة ماسّة لهما كذلك في مجال العلاقات بين الدول، وفي ضرورة احترام خيارات الشعوب لصيغ الحياة الدستورية فيها، وفي عدم تدخّل أيّة دولة (كبرى أو صغرى) في شؤون الدول الأخرى.

إنّ الديمقراطية هي وجهٌ من وجهي الحرّية، وهي صيغة حكم مطلوبة في التعامل بين أبناء البلد الواحد، لكنّها ليست بديلة عن وجه الحرّية الآخر، أي حرّية الوطن وأرضه من كل هيمنة خارجية.

للأسف، فإنّ الواقع العربي ومعظم الطروحات الفكرية فيه، والممارسات العملية على أرضه، لا تقيم التوازن السليم المطلوب بين شعارات: الديمقراطية والعدالة والتحرّر ومسألة الهوية العربية.

فمعيار التغيير الإيجابي المطلوب في عموم المنطقة العربية هو مدى تحقيق هذه الشعارات معاً.

إنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون الآن إلى حركة جيل عربي جديد تتّصف بالديمقراطية والتحرّر الوطني والعروبة. حركة تستند إلى توازن سليم في الفكر والممارسة بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والهوية العربية، حركة شبابية تجمع ولا تفرّق داخل الوطن الواحد، وبين جميع أبناء الأمَّة العربية..

إنّ قلب العرب جميعاً الآن على مصر وهم معها ومع حركتها للتغيير، وكلّهم أملٌ بأن تعود مصر لدورها الريادي العربي وأن تتحرّر مصر من قيود "كامب ديفيد" التي كبّلتها لأكثر من ثلاثة عقود فأضعفتها داخلياً وخارجياً.

مصر لها الدور الريادي في التاريخ القديم والحديث للمنطقة، ومصر لا يمكن أن تعيش منعزلة عن محيطها العربي وعمّا يحدث في جناحيْ الأمّة بالمشرق والمغرب، فمصر هي في موقع القلب، وأمن مصر وتقدّمها يرتبطان بالتطوّرات التي تحدث حولها. فالاختلال بتوازن مصر وبدورها يعني اختلالاً في توازن الأمّة العربية كلّها، وهذا ما حصل فعلاً بعد وفاة جمال عبد الناصر وبعد معاهدة كامب ديفيد.

جسد الأمة العربية يحتاج الآن بشدّة لإعادة الحيوية النابضة في قلبه المصري، في ظلّ أوضاع عربية كانت تسير من سيء إلى أسوأ، ومن هيمنة غير مباشرة لأطراف دولية وإقليمية إلى تدخّل مباشر في بلدان الأمّة، بل في احتلال بعضها كما حدث أميركياً في العراق، وإسرائيلياً في لبنان وفلسطين، وغير ذلك على الأبواب الأفريقية والآسيوية للأمّة العربية التي بدأت كياناتها الكبرى بالتصدّع كما هو حال العراق والسودان.

الأمّة العربية قبل هذه الإنتفاضات الشبابية كانت تعيش كابوس خطر تقسيم كلّ قطر على أسس عرقية وإثنية وطائفية ومذهبية. وكانت الأمّة تخشى على نفسها من نفسها أكثر ممّا يجب أن تخشاه من المحتلّين لبعض أرضها والساعين إلى السيطرة الكاملة على ثرواتها ومقدّراتها.

فضعف جسم الأمّة العربية كان من ضعف قلبها في مصر، ومن استمرار عقل هذه الأمّة محبوساً في قوالب فكرية جامدة يفرز بعضها خطب الفتنة والانقسام بدلاً من التآلف والتوحّد.

حبّذا لو تكون حركة الشباب العربي الآن من أجل كسر هذه القوالب المتحجّرة، وأن يتمّ وضع أهداف فكرية مشتركة لما تحتاجه الأمّة الآن من عناصر لنهضة عربية جديدة، وأن يتمّ استخلاص الدروس والعبر من تجارب الماضي، بإيجابياتها وسلبياتها معاً، وأن تكون حركة الشباب العربي اليوم بداية لعودة الوعي والروح إلى الأمة كلّها.

29/1/2011

 

=====================================================================
من السودان إلى تونس: هواجس خوف وبوارق أمل

 

في أسبوعٍ واحد امتزجت على الأرض العربية هواجس خوف على أوطان مع بوارق أمل من شعوب. فالأسبوع الثاني من مطلع العام الجديد شهد بداية تشريعٍ دولي و"عربي" وسوداني لانفصال جنوب السودان عن وطنه وعن أمّته، كما شهد منتصف الأسبوع تدخّلاً أميركياً سافراً في الشأن اللبناني أدّى إلى تعطيل المبادرة السعودية/السورية العاملة لحل الأزمة السياسية اللبنانية، وبالتالي إلى تصاعد درجة المخاوف على أوضاع لبنان ومستقبله.

لكن الأسبوع نفسه شهد في ختامه ما كان تتويجاً لانتفاضة الشعب التونسي ضدّ حكمٍ ظالم وفاسد، حيث تحوّلت الانتفاضة إلى ثورة غيّرت معالم تونس السياسية ودفعت بحاكمها إلى الهروب سرّاً من وطنٍ كان يتصرّف به وكأنّه شركة خاصة مملوكة له ولعائلته.

فما حدث في أسبوعٍ واحد داخل أوطان من مشرق الأمّة ومغربها، وفي عمقها الأفريقي، هو دلالة هامّة على نوع وحجم القضايا التي تعصف لعقودٍ طويلة بالأرض العربية، وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان.

ولعلَّ أهم دروس هذه القضايا العربية المتداخلة الآن هو تأكيد المعنى الشامل لمفهوم "الحرّية" حيث أنّ الحرّية هي حرّية الوطن وحرّية المواطن معاً ولا يجوز القبول بإحداها بديلاً عن الأخرى. كذلك هو التلازم بين الحرّيات السياسية والحرّيات الاجتماعية، فلا فصل بين تأمين "لقمة العيش" وبين حرّية "تذكرة الانتخابات". وكم يكون حجم المأساة كبيراً حينما تعاني بعض الأوطان من انعدام كل مضامين مفهوم الحرية، أو حين تجتمع عندها حكومات تفرض "الخوف والجوع" معاً في ظلِّ هيمنةٍ أجنبية وفسادٍ سياسي في المجتمع.

ربّما هي سمةٌ مشتركة بين عدّة بلدان عربية أن تنجح شعوبها في مقاومة المستعمر والمحتل ثمّ تفشل قياداتها في بناء أوضاع داخلية دستورية سليمة. فمعارك التحرّر الوطني لم تكن مدخلاً لبناء مجتمعات حرّة يتحقّّق فيها العدل السياسي والاجتماعي والمشاركة الشعبية في الحكم وفي صنع القرار. وبسبب ذلك، عادت هذه البلدان إلى مظلّة الهيمنة الأجنبية، وفقدت من جديد حقَّ تقرير مصيرها الوطني بعد فشلها في بناء الدولة الديمقراطية العادلة.

نجد أيضاً في ملاحظة ما يحدث على الأرض العربية الآن أنّ ما هو مشترك، بين الحكومات التي تعصف الأزمات في مجتمعاتها، هو أولويّة الحفاظ على استمراريّة الحاكم بالحكم لا أولويّة المصلحة الوطنية العليا وبقاء الوطن موحّداً. كذلك نجد على مستوى الشعوب عموماً حالات سلبية من الانقسام على أسس طائفية أو قبلية أو أثنية بدلاً من الصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية والطبقية، والتي هي ظواهر صراعات طبيعية في أيِّ مجتمع حيوي موحّد.

أمّا على صعيد الدور الخارجي في الأزمات العربية، فهو أيضاً عنصرٌ فاعل في إحداثها أو في توظيفها واستثمارها. وهذا الدور الخارجي يجمع، على امتداد أكثر من نصف قرن، بين إسرائيل ودول كبرى حتّى في القضايا العربية الصغرى.

فمنذ العدوان الثلاثي (البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي) على مصر في العام 1956 إلى تحقيق هدف انفصال جنوب السودان، حصل ويحصل التدخّل والتآمر الإسرائيلي/الأجنبي على أوطان الأمَّة العربية. حدث ذلك في انفصال الوحدة السورية/المصرية عام 1961، ثمّ في حرب العام 1967 وفي إشعال حروب أهلية عربية من مشرق الأمّة إلى مغربها بعد معاهدات "الصلح" مع إسرائيل، ثمّ في غزو لبنان عام 1982. حدث ذلك في الحرب على العراق وفي الحرب على لبنان وغزّة في العقد الأول من القرن الجديد. وهاهو يتكرّر الآن في السودان وأزمات لبنان وفلسطين والعراق واليمن.

لكن هذا التدخل الإسرائيلي/الأجنبي ما كان ليحدث بهذا الشكل والمضمون لولا حالات الوهن والضعف في الجسم العربي عموماً وداخل الكثير من أوطان العرب.

ويتفهّم المواطن العربي (وإنْ لم يوافق على) ما قامت به قيادة منظمة التحرير الفلسطينية حينما "أجبرتها الظروف" على توقيع "اتفاق أوسلو" في العام 1993 عندما اختارت مصالح المنظمة على حساب مصالح الشعب الفلسطيني!. والحال نفسه مع ما قام به الحكم السوداني في توقيع اتفاق عام 2005 بشأن الجنوب والذي انتهى الآن بتشريع انفصاله عن الوطن الأم، حيث "الخيار" كان مصلحة الحاكم واستمراره في الحكم على حساب مصلحة الوطن ووحدته.

لكن ما لا يفهمه المواطن العربي وما لا يغفره هو ما قام به حكم أنور السادات، وما يتمّ الحرص بعده على استمراره، من اقتلاع مصر من دورها الريادي العربي والأفريقي وعزلها عن محيطها، وهي القلب فيه، حينما جرى توقيع المعاهدة المصرية/الإسرائيلية رغم النتائج العظيمة لحرب أكتوبر في العام 1973. فما حدث في مصر آنذاك كان وما زال مصدر الخلل الكبير الذي عاشته المنطقة العربية منذ ثلاثة عقود وما تزال. وتصحيح هذا الخلل هو الأساس لأي تغيير عربي إيجابي منشود في عموم المنطقة. ما عدا ذلك، يكون أشبه بمنشّطات تزيد إلى حدٍّ ما من قدرة الجسم العربي العليل على مقاومة ما فيه من أمراض، لكنها لا تشفيه من أخطرها وهو ما حدث ويحدث في قلبه المصري.

إنّ ما يجري في السودان مع مطلع هذا العام (في ظل غياب الدور المصري الفاعل) لا ينفصل عمّا يجري في شمال العراق، ولا عن محاولة فصل جنوب اليمن عن شماله، ولا عن تصاعد العنف ضدّ الكنائس العربية، ولا عن إثارة الغرائز الانقسامية بين المذاهب الإسلامية. بل إنّ كلّ ذلك يؤكّد جدّية المشروع الإسرائيلي/الأجنبي الساعي لتفتيت ما هو أصلاً مقسّمٌ عربياً، ولإقامة دويلات "فيدرالية" ترث "الرجل العربي المريض" كما ورثت اتفاقيةُ (سايكس/البريطاني وبيكو/الفرنسي) مطلع القرن الماضي "الرجلَ التركي المريض".

أيضاً، ما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ ليس عن خطايا حكومات وأنظمة فقط بل هو مرآةٌ  تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويتين العربية والوطنية ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي.

إنّ المشترك بين البلاد العربية لم يعد وحدة اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا فحسب، بل أيضاً وحدة الحال من حيث وجود حكومات فاسدة وقمع سياسي وبطالة واسعة وفقر اجتماعي وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، وكلّها عناوين لانتفاضات شعبية وراءها عشرات الملايين من المظلومين والفقراء على الأرض العربية.

لكن ماذا بعد الانتفاضات، وعلى أساس أيّ برنامجٍ للتغيير؟

تونس هي الآن نموذجٌ جميل وممتاز لكيفيّة أسلوب التغيير الداخلي المنشود في بلدان عربية أخرى، من حيث الإصرار على الهدف واستمرار الحركة الشعبية السلمية الرافضة لاستخدام العنف المسلح، والحريصة أيضاً على مؤسسات الدولة وعلى مؤسسة الجيش الوطني، والمستعدّة لمزيدٍ من التضحيات، والرافضة للمساومات الهادفة إلى جعل التغيير في الأشخاص فقط. فهذه الثورة التونسية الشعبية العظيمة استطاعت التمييز بين صوابيّة إسقاط النظام وخطيئة إسقاط الدولة، ثمّ رفضها للتغيير في الأشخاص والحاكم فقط وليس التغيير في النظام ودستوره وسياسته.

 لكن هذا النموذج التونسي، الذي ما زال يانعاً ولم ينضج بعد، حصل في مجتمع متجانس في كل تركيبته الدينية والأثنية، فلا تعدّدية طائفية أو مذهبية أو عرقية على أرض تونس الخضراء، وحالها غير ما هي عليه أحوال أوطان عربية أخرى ما زال هاجس التغيير "الجغرافي" فيها أهم من أمل التغيير "السياسي".

 

18-1-2011